من قصيدة الجحيم

2025-05-21

جميل مفرِّح*


ازدحمت المدينة بالدخان والغبار
وبالأرامل اللواتي صارت أقدامهن
طعاماً للبرد وحلوى للقيظ..
الناس منشغلون بالحذر
يتدحرج من الثقوب والغيوب
ويأخذهم أحياناً إلى حيث تعزُّ العودة..
تكوَّم الكلام
حتى صار جبلاً مالحاً ضخماً
ينام حارسا المدينة على كتفيه الهشَّين
وهو فاغرٌ للشعراء فوهاته المُدججة
بالغموض والبارود..
أصبح السكان كلهم شعراء
ولكن لا أحد يقرأ شيئاً لأحد..
غدا الشعر رياضةً سياسيةً بامتياز
والشعراء كتابَ بيانات حربية..
والجمهور خيالاً جامحاً في عتبات
القصائد..
لم تعد المدينة مدينةً
ولم تعد البلاد رفيقة نزهة في الأحلام
ولم يعد هناك من فاصل حدِّي مقدَّس
بين السماء والأرض..
لم تعد الأرض واحدةً والسموات سبعاً
لم تعد أبوابها سبعةً
المدينة غدت بكاملها باباً واحداً...
الجحيم لم يستطع بعد أن يغدو سبعةً..
لا يزال واحداً أيضاً.. ولكنه يكفي
لأن يكون سريراً، متكأً، حديقةً،
وظيفةً عامةً، أرجوحةً للفقد والفقر
وعكّازاً مستعاضاً تستجير به الأقدام..
لم يكن الجحيم مدينةً
ولكن هاهي المدينة تغدو جحيماً
ليس محرّماً ولا مسكوتاً عنه..
صارت نصاً مكتوباً بشفرات راجفة
ومُقفىً بدويٍّ مكتومٍ في صدور الثكالى
وصار الندب والعزاء غنائيته المعهودة..
غدت الحسناء تابوتاً ضيقاً جداً
وفي أحسن الأحوال
تابوهاً منمقاً ومنقوشاً بفضلات حياة..
صارت المدينة ذات المآذن المألوفة
غير مألوفة..
استفرد الظلام بالأُلفة على غير عادة
صار حياةً وأمنياتٍ مستقبليةً
وشعاراتٍ مستوردةً وملصقاتٍ جدرانية..
صار مقاعدَ مهلهلةً يتزاحم عليها
المعوزون وأدعياء الوطنية المُهرِّجون
والموالون الزائفون..
لم تعد هذه مدينتي
التي كان الشعر يزهر من بساتينها
فيقرع بأنامله الصدور بأدبٍ جمٍّ
قبل أن يتخلل شوارعها وزجاج قمرياتها..
لم يعد القمر وجهةً للقصائد
لم نعد نستعيره لغزواتنا العشقية..
بل لم يعد ثمة أقمارٌ تسامرنا
وتلهو معنا حتى الصباح المنشود
ولم يعد هذا الفردوس المعهود
الذي كتب عنه أصدقائي قصائدهم
الخالدة..
لم يعد الخلود يتذكَّر أياً منا الآن..
صرنا مجرد صعاليك نقطع الطرقات
والأدعية بين الأرض والسماء
بحثاً عن الأماكن التي تبيع خبزاً رخيصاً
ونملاً متخماً بالسكر، وزيتاً لا تستسيغه
حتى محركات الدراجات النارية..
من أين أتت كل هذه الناريات..؟!
يخيل لي أن السماء ذات ليلة داكنة
وعلى غفلة من عدسات الرزق
أمطرت محركاتٍ وعجلاتٍ ومقاعدَ
مأهولةً بأشباحٍ طاويةٍ ومتلاصقة..
كان هنا بشرٌ كثيرون
وكان الشعر يمشي مختالاً
على أكتاف المارة وفي حقائب
المارات على العشب والعشق..
كان هنا مدينةٌ وبشرٌ وشعرٌ ونساءٌ..
وكان هنا بساتينُ وأفنيةٌ للّعب
وأصوات ملائكةٍ ومؤذنين ومغنيات..
وكان هنا حياةٌ لا تأبه بشرطة الله
ولا تتحاشى جباة الأنبياء..
وكان هنا أيضا وطنٌ رايتُهُ رئةٌ
خاليةٌ من النيكوتين والقطران والسل
وأيضاً من الأدعياء المتعجرفين..
نعم.. كان هنا شيءٌ ضخمٌ جداً
يستحق بجدارة مطلقة أن نقول أنه
صار أثراً بعد عين..!!

 

*شاعر يمني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي