سيرة الشعراء اللامرئيين

2025-05-03

اللوحة المرفقة للتشكيلي الأردني خلدون الداودعبد الوهاب الملوح *

1

من جهة ما
جهة لا ضوء فيها ولا عتمة
لا صحراء ولا ماء
من عنفوان الزمهرير ويقين كذب هذا الوجود
جاؤوا ومروا من هنا
مروا خفافًا بلا أدباش
ولا أمتعة للروح
مروا كثيرًا ولا أحد رآهم
ثمة من أصابته عدوى منهم
لقد كانوا مجرد رائحة
رائحة فقط.


2

تلك الأغنية لم يسمعها أحد، غير أنهم خرجوا كلهم يمدون خطاهم أنهارًا ترقص على أنغام كمنجات حلم خرج بدوره يطارد أولئك الذين اشتغلوا حدائق في مخيلة المناخات السيئة، فأضاؤوا أزاهير تعلم فن الابتسامة بصمت، تلك الابتسامة التي ترفرف عصفورًا في سماء مكفهرة.

3

وماذا بعد؟
لنواصل الرقص ليس كما اتفق!
نواصل قطع أنفاس المصائر التي أعدّها خياط أعمى على مقاسات موتى لم يتسع لهم الموت!
فهل ما زال هناك بعد؟


4

اعتاد الجلوس في غرفة أرادها ضيقة ليرى فيها موسيقى؛
أصوات منسية، وجوه على أهبة الابتسامات الساحرة، خطوات بعيدة في أعماق أنهار بلا ضفاف؛
ليرى نفسه على وشك الحياة.
لم يكن يحب المرايا.


5

بائسون؛
نكتفي بالقهقهات قميصًا
والطيش رغيفًا
نخوض خيباتنا صراحة
ونركض في غبار أيامنا
لا نسلك الطرق المُعبّدة
نشرب عواء الذئاب
ونعد خطانا حجرْ...
بائسون
لم نتسول سيرتنا من الله
فلسنا أسوياء بما يكفي
لينال منا حزن حياة لا تكتمل.


6

لا ضيق لي من الضيق؛
الاتساع يوهم بالأمل،
والفج أرجوحة الضال؛
لم أكن في حاجة إلى عمر
لأكون.


7

قلتَ ما ليس يكفي؛
غسلتَ يديكَ بسرٍّ لديكَ،
وألغيتَ كلَّ مواعيدكَ العالقهْ
في البياضِ مع الاستعاراتِ
والنسوةِ الآتياتِ من الأملِ الهشِّ
أو
من مُخيَّلةِ الألم المتكاسلِ؛
ألغيت كلَّ مواعيد عُزلتِك الصَّاخبهْ،
ثمَّ جلست على مقعد في القصيدة،
ثمَّ مشيت تتابع موكب دفنك وحدك،
ثم قهْقهتَ
كالريح مُكنسةً تضحك في فم هذا السراب
وتُنقذُ أغنيةً من يديها...
ثم قلتَ صمتَك
بحاسَّتك الشجرة
قلت للحزن خذ بيدي؛
بين طاولتين كأرجوحتين
ثم مضيت خيالًا لدمعة ما قلتَ؟


8

لم أكن يومًا صاحب مهام لأنهيها، فلي هموم أربِّيها كي تستبق الموت بأقساط حياة بعيدة، كمن يرعى في البحر سيرته التالفة جزيرة.

9

على حرف هاوية
والخطى عالقة مرثيات
لأجمل ما فيك
كنتَ تُصدِّق لغوك
تشرحه للمرايا حواس طيش
يحرِّف معنى الطريق
طريق تعود إليها وحيدًا
على حافة حرف عصي.


10

سلام على روحه
هكذا سيودّعه الأصدقاء
وما شابه الأصدقاء؛
سيرتجل البعض منهم قصائد سيئة
ويرسل الآخرون دموعًا تبرّأ منها البكاء
فهل يا ترى سلمت روحه من أظافرهم
وهو حيّ يرافقهم!
الشعراء اللامرئيون.


11

لم يكن قلبه من دم
كان أرجوحة تتلهى بتسلية اللاجئين إلى الوهم يختصمون الأمل
كان محتشدًا من ألم
لم يكن قلبه دمية في يد القفص الصدري لرعاة العواطف
أولئك الجالسون على مقاعد في محطة بين الدموع
يحتفلون بسكين ضوضائهم تُشرح القلب
الذي بلا دم...
كان سؤالًا يشبه رصيفًا مهجورًا...


12

تدعوني إلى وليمة الطقوس المغبطة
تأخذني مني إليك وتختلي بي صفاتُك
أتخلى عن كل ارتكاباتي وأرتقي مدارجك اللولبية مستندًا إليك بلا رغبة للوصول معك حيث تشتهي،
ها أنا ذا جالس في بهو طيشك غير عابئ بما تفعله بي
وما تفعله بي يوجعني إلى حدّ الفجيعة
ما الذي تريده مني بعد الآن يا جسدي الوغد
لقد أفنيتني
وأنت تطلب فناء التجلي.


13

لأننا لم نكن نتقن تعليب البلاغة وامتطاء مكنسة الاستعارات لغزو سماء الأخيلة
وكنا نقرف من الجلوس في صالات المعاجم التي تشبه تلك الكنائس القوطية المهجورة
نخرج من أنفاسنا ويطلع الصباح من خطانا عند منتصف الليل
أو بعد ذلك بقليل ونحن نعد عصير فاكهة قهقهة برية
لأننا لم نعرف المشي على سطر مستقيم نرتكب منعطفات مباغتة يغمرها الضباب ترقص كما يرقص بنا طيشنا
لأننا أفسدنا كل شيء خلفنا ومن حولنا وقدامنا
ثم جلسنا نلعب الورق ونقتل الملك والملكة نكاية في الجوكر
نحن نحيا الشعر قال عازف كمان ثمل
ما شأننا والشعر فنحن نتدرب على إنقاذ خطانا من طريق مستقيم.


14

لم يكن بوشكين مجرد شاعر، كان فتى مشاكسًا يسكر بالأفجار ويتغزل بها في عيون سيدات البذخ الصباحي. يوقظ الشوارع بطيش رقصاته فهو لم يكن يجيد رقصة البولكا، هو يفعل ذلك لأنه يريد اللهو مع الزمن، ينقذه من غصته ومرافقة الأشجار في مخيلتها المنكوبة، لذلك يحب مبارزة الضباب وطعن غيبوبة الطقس.

في ذلك اليوم لم يفكر بوشكين في الموت ألقى التحايا على المارة العابرين وقال شيئًا لم يفهمه زوج محترم للغاية، قال إنه قتيل عشق غامض وما فتئ يكرر ذلك احتواه حوذي عادة ما يكنس من عربته بقايا عشق فاسد وقتها جاءته الطعنة من رجل لا يحب الشعر.

15

أنا الممتلئ بي
أنهيت كل ما عليَّ من خطايا
أخفقت الجدران في تكسير خاطري
والطريق التي سلكتها انفتحت في صيحتي بلا جهات
أنا الآن أبعد مني
لا ينقصني غير أن أمشي أبعد من سيرتي
ليس بمثابة الوداع
فتلك نكتة قديمة
يعرف كبير الفيلة جيدًا كيف يختار ذهابه.


16

‏لا يفتح نافذة للصمت؛ لا يصنع من البكاء بابًا؛ لا يكنس حزنه بالانتظار؛ لا يطارد الصراصير من بين الزوايا لا يكسر ضلوع آهات الجدران الكتيمة، لا يخرب أثاث روحه. يتعهد كل هذا بالتحديق فيه.


17

البلاد التي تُسلم أمرها لشخص واحد هي بدلة فصلها خياط ماهر من قماش مهترئ، البلاد التي كانت بالماء تمشي بساق واحدة وصدقت أن لها جناحين تطير بهما في سماء واحدة غرقت في قهقهة عباس بن فرناس. لا شيء يؤكد أنها أرض وفيها بحار وجبال وأودية ولا شيء يدل عليها في خرائط غوغل سوى أنها ممر لقراصنة الرياح. سوف يتطلب الأمر أن يتفقد كل واحد ثمالة الجغرافيا في جيبه ليتأكد من ثقوب في هويته. وحده موزّع البيرة يعرف مواضع الحانات وأحيانًا يتوقف ليسكر مع الأشجار وحده. تلك الأشجار علمته وهو يرقص معها أن البلاد كذبة، والوطن سلة الأيديولوجيات. لم يكن يؤمن بدوره بالبلاد، تلك التي أسلمت لها نفسها في لحظة ستريبتيز. قال لي ابني ما معنى ستريبتيز البلاد؟ نسي ابني الذي ربيته على السؤال أني معلّق نقطة استفهام.

18

قريبًا؛

أحدثكم عن أخبار لغتي والحانات التي لا شبابيك لها سوى عربدات السكارى أول الصباح. أحدثكم عن الصبية الذين هجروا المدارس يتشبهون بضفادع تدخن السجائر المحلية وتسعل مستنقعات من رئات زعماء الثورات المزيفة. سوف أحدثكم عن سائق قطار وقطار وسكة حديد ومحول خط دخلوا في جيب أثرياء الثورات، وخرجوا قهقهات عالقة بين محطتين…
قريبًا؛
أحدثكم عن أخبار لغتي التي هربتها من كتاب فقه الثعالبي لنرقص قليلًا عند مثلث برمودا ونلحق بماجلان قبل إصابته بالسيفيليس. قريبًا، أحدثكم اللغة الطائشة عن عابر لامرئي تحول فجأة إلى حرف هواء.

19

لا شيء يستدعي الانتظار؛ فكرة تتخلص من أثاثها فلم تعد صالحة للكراء؛ طريق تدّعي الغيبوبة، تنفتح منعطفات تمائم تتردد أصداء رقصات هندي أحمر بين وديان الألاسكا؛ مطر يخلص السماء من أرباب زائفين ويوقظ ترابًا ادّعى الحياد؛

امرأة تتجاهر بالنهر وتمشي في الصباح مخيلة البحر؛

الانتظار مبرأة الفراغ المزدحم بالوهم؛ كانت الراقصة الغجرية تنتظر عودة ريتسوس لتعلن استقلال أرخبيلات اليأس من الانتظار. لم ينج أحد من ظلال رقصتها وصدى عنفوان آهتها وهي تفعل الحب مع الحرية؛ كل ما في الأمر إن عملية بيع الحب في المزاد العلني توقفت فجأة بسبب انتحار عاشقين إغريقيين؛ لقد غرقت صافو في أغنيتها وهي تجلس على الحياد من بكاء عشاقها. أنا شخصيًا تعودت الجلوس على الحياد في خضم أزمات الثرثرات المعهودة، غير أنني السؤال الرجيم وقد شاركت بيير باولو بازوليني ضحكته الأخيرة.

أعرف تلك السماء وأعرف أحزان مقاهي آخر الليل وأعرف عاهرات يشبهن دموع السكارى وأعرف الطريق التي لا تمنح نفسها للراغبين في الوصول، ولا أعرف أنه يجب أن أغلق قوس السؤال، رغم أنه لا شيء ينتظرني في الخارج.

20

أحب الارتباكات تلك التي تُحدث إخلالات في معمار الانفعالات تتمدد بمثابة شروخ، فأصنع فجوات عميقة تطفئ نيران الرغبات المعتادة. لا شيء أقوى من كسر قامة الدهشة بمطرقة رعشة لامبالية. تلك الشبابيك وهي تنفتح تبعث الريبة في حجرة الوهم وتوقظ في الجسد عريه المتجدد. لا يزال الوقت باكرًا على الاطمئنان والسعادة؛ بوليس يمارس مهنته بالارتشاء من فرح مشبوه. أحب ذلك الطيش الذي يولمني لريح التردّد؛ لكم تمنيت أن أكون ريحًا تأتي من تراجيديا الأساطير المأهولة بالصمت، ذلك الطيش وهو ينتهك اليقين. ما زلت أصدق أخطائي وأجلس على الحافة أتسلى باللهو وحيدًا مع اللغو، فأنا أجيد ابتكار الصباحات أخيطها من مزق شهواتي المرتبكة وأقنع فوضاي بما أمتلكه من حكمة سكران يعيد ملء زجاجته بوقت خاسر. لا أريد لهذا العمر أن يكون قنينة مياه معدنية صافية، فأنا في النهاية كائن مغشوش الأصل.

*شاعر تونسي.









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي