شخص غامض : أنطون حنا دياب الحلبي … لقاء الشرق والغرب

2025-03-26

ترجمة وتقديم: عبد المنعم الشنتوف


تشتمل يوميات حنا دياب على عدد من المقاطع تشير إلى تلكم الحكايات التي رواها لأنطوان غالان. وهي الحقيقة التي تنزع نحو تأكيد كونه صاحبها، في الوقت الذي تثير فيه أسئلة أخرى. وكما أشار إلى ذلك الباحثون فإن حكاية العثور على الخاتم والمصباح السحريين لعلاء الدين، يذكّران بكتاب الرحلات، الذي عمد فيه لوكاس إلى استئجار راعي غنم كي يدلف إلى المقبرة، ولم يلبث هذا الرجل أن خرج وهو يحمل خاتما كبيرا ومصباحا شبيهين بتلك التي يستعملها التجار. وكان قصر علاء الدين الفخم والمرصع بالياقوت واللؤلؤ والزمرد، يذكّر بوصف حنا دياب لجناح الأميرات في قصر فرساي. وكان الجني الذي ينقل القصر بكامله من الصين إلى شمال افريقيا، يحاكي ما رواه دياب من تحولات الشخوص فوق مسرح أوبرا باريس.
بيد أن السؤال الذي يطرح في هذا السياق هو: ماذا لو كان حنا دياب هو علاء الدين؟ يبدو هذا السؤال، الذي طرحه بيرنار هايبرغر في مقدمة الترجمة الفرنسية لرحلة حنا دياب، ذا قيمة ووجاهة. كان كلاهما يتيم الأب، واختتمت سيرتهما فوق الأرض نهاية غامضة. فشل علاء الدين في تعلم أي حرفة، وكان ينفق وقته في العبث مع المنحرفين من الجيران، وكانت أمه تدعوه (الكسول). سوف يظهر بعد ذلك شخص أجنبي غامض وهو الساحر في حالة علاء الدين، ويدعي أنه عم الولد ويعده باشياء عظيمة في حال مساعدته على اقتناص كنز. وسوف يتمكن علاء الدين بفضل مساعدة جني المصباح على الاستقرار داخل قصر عظيم والزواج بابنة السلطان. ينتمي كل من علاء الدين ويوميات حنا دياب إلى عصر «الحكايات». بيد أن الحكاية السحرية تحول مكبوتات الرحالة إلى سلسلة من الأماني المتحققة.
قد يكون ثمة إلى حدود اللحظة بعض الشك في ما يتعلق بكون دياب صاحب لحكايتي «علاء الدين» و»علي بابا والأربعين حرامي» والحكايات الأخرى التي ترجمها غالان ونشرها دون أي إشارة إلى مصدرها. ويبدو أن دياب استمع إلى صيغ من حكاية علاء الدين من حكواتيي المقاهي في حلب، ولكن ذاك لا ينقص البتة من أحقيته؛ ذلك لأن فعل الحكي فن يعتمد المشاركة بشكل ضروري. وبالنظر إلى التأثير الذي مارسته هذه الحكايات لاحقا، فإن الإقرار يكون دياب مبدعها يمثل فعلا دالا على رد الاعتبار التاريخي.
سوف يكون مخجلا والحالة هذه أن نرهن منزلة حنا دياب في التاريخ بلقائه بأنطوان غالان. وسوف يبالغ البعض في ما تتميز به حكاية علاء الدين من إثارة وتشويق بتأثير شهرتها بكل بساطة. هل فات الوقت لكي نقترح أن الحكاية نالت أكثر مما تستحقه؟ ووصمت هذه الحكاية بمعاداة السامية؛ إذ كان علاء الدين عرضة للاحتيال مرات عدة من لدن تاجر يهودي طماع. وهي الاستعارة التي سوف ترد في يوميات دياب.

يمثل لقاء دياب بأنطوان غالان واستقباله من لدن لويس الرابع عشر مشاهد مسرحية، تصور لقاء الشرق والغرب بكل تمثيلاتها الذاتية وأنماط سوء الفهم التراجيكوميدية. بيد ان هذه المشاهد ليست هي ما يميز يوميات حنا دياب، ذلك أن التصنيفات الثقافية والجغرافية أكثر مرونة. لم يوح دياب على امتداد يومياته بأي شعور بوجوده في بلاد أجنبية وقد التقى في قبرص وكورسيكا ومارسيليا وباريس بحلبيين مارونيين، كان بعضهم يشغل مناصب رفيعة في الإدارة والتجارة. تجسدت الفروق الدقيقة بين أهل المدن وغيرهم، وتحديدا في أوساط بدو شمال افريقيا، الذين أحس دياب بأن غرابتهم أشد عمقا وأيضا بين الكاثوليك والطوائف المسيحية الأرثوذكسية الشرقية. ولم يشعر دياب أثناء إقامته في فرنسا بالاغتراب الثقافي، إلا حين كان في قصر فرساي. يبدو الشعور بالغرابة طعما نخبويا.
لم يبدر، على أي حال عن حنا دياب أي شعور من جراء التعامل معه بوصفه مثيرا للفضول. كان دياب مفتونا بالاستعراض العسكري بتنظيمه المحكم ونجاعة المستشفيات الباريسية. وليس ثمة من وجود لإحساس بالدونية الثقافية، أو حضور للثقافة بوصفها نمطا منسجما. يمثل دياب المتوسطي كل هذه الشعوب التي تحيا بعيدا عن أوطانها وتتكلم تنويعا من اللغات وتجرب هويات على المقاس ثم سرعان ما تتخلى عنها لصالح أخرى. جل النصوص الرحلية إبان القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر جرى تأليفها من لدن سفراء وفقهاء وحجيج. وكان هؤلاء المؤلفون وجوها تمثيلية تنتمي إلى أسر عريقة وتكتب في الغالب بلغة عربية عالمة ويعمدون إلى الاستشهاد بأبيات من الشعر العربي القديم. وكانوا يدونون مشاهداتهم لفائدة زملاء متأدبين أو سادة أعيان قاموا بتمويل رحلاتهم. لم يكن دياب مكلفا بمهمة؛ إذ لم يكن ينتمي إلى أسرة عريقة، ولم يوجه قراءه وفق أساليب وإيقاعات رسمية، وإنما أحس بان شخوصه كانت حقيقية.

دوّن دياب مشاهداته الرحلية بفعل اختيار الرب له كي يحيا حياة مثيرة عامرة بالأحداث المدهشة. والتفسير الوحيد لنجاته من القراصنة واللصوص والعواصف والأعاصير يتمثل في رعاية الرب له بشكل خاص. حقيق بالإشارة أن دياب كتب يومياته وفق اقتضاءات الشكل التعبيري الموسوم، الفرج بعد الشدة. ووفق هذا النوع من الحكايات يكون الخلاص من الشدة قرينة على فضل من الرب وعفوه. ويشبه النموذج السردي الموظف في هذه اليوميات السير الوعظية الأثيرة عند دياب، والمستعملة في ألف ليلة وليلة. يشكل الخلاص من الشرور عصب حكاية السندباد على سبيل التمثيل، وحيث تنتهي العواصف التي كان عرضة لها بالنجاة منها. وحين يجد علاء الدين نفسه مدفونا داخل مغارة وهو يحمل الخاتم الذي لم يكن يعرف بعد قوته، وكان عليه أن يؤدي صلاة ويفرك الخاتم المعدني الذي جلبه من قبل المارد الجني.
وبالنسبة لحنا دياب، وكما هو الحال بالنسبة لعلاء الدين، فإن البطل يبذل من الجهد القليل كي يستحق الحظ السعيد. يشعرك الفصل الأخير من يوميات حنا دياب وهو تقرير عن رحلة عودته عبر إزمير وإسطنبول والأناضول، بانها تسكع على غير هدى. يمارس دياب أعمالاً غريبة، أو يعيش عالة على الأغنياء، أو رعاية ذوي الحظوة والنفوذ. كان يقيم في فنادق رخيصة ويخوض معارك بالسلاح الأبيض. كان يزعم بأنه طبيب فرنسي. ويرجو من خلال تنكره جعل سفره في هذا البلد الوعر أيسر. كان يتحدث الفرنسية وتعلم بعض الحيل من السنوات القليلة التي قضاها صحبة لوكاس.
سارت الأمور على أحسن ما يرام إلى أن صادفت قافلة دياب حاجب الملك الذي طلب من دياب أو «الطبيب الفرنسي» أن يفحص شابا كان برفقته وكان يعاني من الحمى. وكان أن ارتجل وصفة هي خليط من الإجاص والتمر الهندي المسحوقين. وكان من «حسن حظه» أن كان مفعولها جيدا. وحين علمه بأن دياب ينتمي إلى حلب، فإن الحاجب الملكي أبدى تعجبه من هذه المصادفة. كان في الحقيقة عون جمارك في حلب، وكان يعرف العديد من الأسر التي تحترف التجارة.
استشرفت هذه المرحلة تمامها، في ما يهم دياب بعودته إلى حلب وقد عثر له أحد أشقائه على عمل في متجر عمه. وقد أنفق دياب العشرين سنة الأخيرة من حياته تاجر ثياب. وقد ورد اسمه في سجل المارونيين المقيمين في حلب باعتباره رب أسرة مكونة من اثني عشر فردا: ستة من الذكور وست من الإناث. بدأ حنا دياب راضيا بعيشته الجديدة. وقد فكر مرة في أن يصبح كاهنا، لكنه سرعان ما أدرك بأن الرب قد اختاره لحياة الزواج والأسرة.
لم يلبث ان أحاط علما بعد سنة من عودته إلى حلب بإقامة لوكاس في منزل القنصل الفرنسي. وكان أن رتب لنفسه الموعد الذي كان لوكاس قد وعده به. وكان قد عاود ما كان يفعله في ما مضى؛ أقصد إعطاء النصائح الطبية والبحث عن القطع الأثرية. لم يشعر دياب حياله، على الرغم من ذلك، بأي ضغينة، أو عداء، بل عمد إلى مرافقته بقصد استكشاف أحد الكهوف في حلب. ولكن دياب كان قد سمع أنه لا يحوي أي كنز. وبدا أنه قد أحاط علما بحقيقة هذا الرجل. وبذلك استشرفت يومياته نهايتها.

*كاتب فرنسي
*كاتب ومترجم مغربي









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي