
عبدالله عيسى*
1- هدنةُ الموتى
لم يعدْ للحروبِ مذاقاتُ تلكَ الحروبِ،
ولا شيءَ يَحتكِرُ الوقتَ في ظلّ هذا المكانِ،
ولا هدنة كي نَلُمّ الجثامينَ مِنْ جَنَباتِ الشوارعِ،
أو نتفقّدَ أسماءَنا في بطونِ المقابر.
حتّى ندلّ صراخَ الرهائنِ تحتَ الركامِ إلى منفذٍ للنجاةِ،
ونندمَ أنّا تَعَجّلَنا موتنا فارْتدَينا السواد،
لئلا نعود رماداً إلى ضفةِ النهرِ. نهري الّذي يقتفي معيَ الغيمَ
حنّى نصدّقَ أنّ مياهَ البحيرةِ لا تشتكي قمرَ الحيّ للغرباءِ هنا.
قُلْ يا غريبُ: لماذا أتيتَ وكانَ عليكَ الرحيلُ؟
كأنّكَ، مثلي، هنا
لا أكلّمُ غيري هناكَ
لعلّكَ لوّحتَ حتّى أرى أنّني لمْ أعدْ شَبَحاً ما،
وأنّكَ واريتَ عينيكَ في جثّةٍ تتعفّنُ كي لا تراني.
كأنّي عرفتُكَ
تصرخُ أرملةٌ هرعتْ كي تُعانقَ طفلتَها في الزقاقِ الّذي مالَ فوقَ الجدارِ المقابلِ
أنتَ
الّذي..
أنتَ
كنتَ تربّي الجراذينَ في سُفُنٍ تُرِكتْ عُرضةً لِلهَلاكَ
كأنّي نجوتُ بمُعجزةٍ ما لأنّي هربتُ.
ألمْ تَرَني في مرايا ضحاياكَ سيدةً فقدتْ في الحروبِ الصغيرةِ سيّدَها
أتلمّسُ قلبي، وأندبُ خاتِمتي
إلهيَ ما أكثرَ الميتينَ الّذينَ دفنّا،
إلهيَ ما أكثرَ الميّتينَ الّذين أضعنا
إلهيَ ما أكثرَ الميّتينَ الّذينَ فَقَدْنا
وما أكثرَ الميّتينَ الّذينَ..
وما أكثرَ الميّتين.
وما أحدٌ منهمُ اليومَ
إلّا وأودعتُ فيهِ خلاصةَ روحي
وما أحدُ فيهمُ اليومَ
إلا وبشّرتُهُ بالخلاصِ
ولا شيءَ في هذهِ الحربِ يحدثُ قدْ يُشبِهُ أيّ شيء سيحدثُ في أيّ حربٍ ستحدثُ.
قدْ تقتلونَ المغنّي،
ولنْ تستطيعوا اغتيالَ الأغاني.
2 ـ رقصةُ الأرزَ
ناحَ أرزُ الإلهِ معي في المآتمِ.
ناحتْ طيورُ السماءِ التي فقدتْ بينَ حربينِ أعشاشَها، وسماءينِ.
ناحتْ معَ الريحِ نارٌ تدلّ علينا.
وناحتْ شعوبٌ أوَتْ، بِعواءِ الهلاكِ، إلى ظِلّهِ.
ناحَ ماءٌ روى الهابطينَ
بأغنيةٍ لم تنمْ،
مِنْ وراءِ الجبالِ البعيدةِ.
ناحَ الهواءُ…
وأنتَ
بكفّينِ أثّامتَينِ علوتَ على الشجرِ المتعمّدِ بالغيمِ
حتّى جعلتَ البساتينَ وعْرَاً..
وعيّرتَني أنّني أشْبِهُ أرزةً قائِماً بالحقيقةِ والحبِّ
أيّ الغُصونِ جبينُ حبيبي
وأيّ الجذورِ ظلالُ خُطاهُ.
وأيّ الجذوعِ الّتي نضجتْ روحُهُ.
وأنادي على شتلةٍ كَلِحتْ مُذْ أتيتَ
خذي من بَخُورِ الصنوبَرِ حتّى أعودَ،
فأجلسَ تحتَ ظلالِكِ،
أشكو لِوَعْلٍ،
يعاتبني أنّني سِرْتُ وحدي لأنجو بمملكتي،
خوفَ نفسي على نفسِها
خانني صَاحِبَايَ،
وقَطّعَ بي سُبُلي عن رؤايَ الرجاءُ..
فكيفَ يزور الإلهُ بلادي،
وينصُبُ أشجارَها بيديهِ المُباركَتَينِ،
فتجتثّها؟
حيثُ تبترُ جذعاً، تَجُزّ بفأسِكِ روحي،
وتقفزُ كالثورِ بين البوادي،
وتكسو المراعي ثيابَ الحدادِ؟
أنا ما أزالُ قتيلُك في كلّ حربٍ،
أما آنَ لي أنْ أصدّقَ
أرضي سريري،
وسقفي السماءُ؟
كأنّ الدُخانَ قرينُكَ،
والموتَ ظلّكَ.
حيثُ تكونُ يكونُ.
وحيثُ يكونُ تكونُ.
ولكنّني…
لنْ يكونَ بمقدوركَ اليومَ، وضعَ أكاليلَ وردٍ معطّرةً فوق قبري.
أنا فكرتي.
لستُ جثّةَ نفسي.
وماذا ستصنعُ بالاخضرارِ
وأنتَ الّذي أزهقَ العشبَ؟
ماذا ستفعلُ بالدمعِ منذُ فقأتَ العيونَ؟
ونحنُ قتيلوكَ.
لم نبتسمْ في المرايا لأنّا ادّخرْنا كلاماً أخيراً.
لأنّا ذرفنا هنا دمَنا إنّنا الوارثونَ.
الوحيدونَ
نحنُ
جُعِلنا لريحٍ محمّلةٍ بلقاحِ النباتاتِ أجنحةً،
للغيومِ الشريدةِ مجرى،
لأغنيةِ العاشِقَينِ سريراً من الماءِ،
صلاةً لِمَنْ قطنوا في الخنادِقِ حتّى يعودوا.
جُعِلنا لنا
لبيوتِ اليتامى،
وصبرِ الأراملِ،
مقبرةً تستغيثُ بخيبتِنا: لا بواكيَ لي.
وجُعِلنا لنا
كي ندلّ ضريري القلوبِ على عتباتِ الخلاصِ،
وندعو كعادتَنا كلّ تلكَ التلالِ إلى حلْقةِ الرقصِ،
هذي السواقي،
وذاكَ العراءُ.
*شاعر فلسطيني