
فراس موسى*
(إلى عبد الله عيسى)
هل كنتُ أعرف يومَها
أنَّ القصيدةَ سوف تصبحُ لعنتي
أم كنتُ مشغولًا أفتّشُ في مرايا البيت
عن اسمي الوليد لكي أتوئمَ صرختي الأولى مَعَهْ..؟
في ذلك البيتِ المغمَّس بالمحبّة..
ذلك البيتِ المدوزنِ مثل جيتارات قرطبةَ
اللواتي يحترفن إراقةَ الذكرى
وسكبَ الدمع في نهم الفصول الأربَعَهْ..!
– بيتَ القصيدة؟
– لا.. أنا أعني تمامًا بيتَنا..
وكْنَ الطيور..
نحاتةَ الزمن الضنين..
وسورةَ الأنس الطويلةَ..
مفرشي في الحُجرة الوسطى أو الأولى..
ارتشافي شمسَ ما بعد الظهيرة فوق سطح (الدّار)..
مائدةَ الحنين..
خزانةَ الآلاء..
موسيقى السكينة..
منسجَ الأحلام..
حُقَّ الحبّ..
أسطالَ الزروعِ: العِطْرةِ.. النعناعِ..
والريحانِ.. والملّيسةِ.. الخبّيزةِ..
البقدونسِ.. الشابِّ الظريفِ..
الهندباءِ.. الـ (روز ماري)..
والخميسةِ (بنتِهِ الأحلى)…
مشاكَّ البامياء..
محارةَ الأسرار..
ذاكرةَ السنين؛ وليدِها وتليدِها..
وسراجَ زيت الكاز (مصباحَ الكيروسين)
المرابطَ في صقيع الليل..
صوتَ أبي.. تنحنحَهُ..
نثارَ سعاله في غبشة الفجر الذي
يستلُّ ضوءَهُ مثل حاوٍ من قميص الليل..
إبريقَ الوضوء المعدنيَّ..
نداءَهُ كيما أفيضَ على يديه الماءَ..
علبةَ تبغه.. مسواكَهُ..
أشياءَهُ الأخرى الحبيبةَ..
بيتَنا أيْ: دفقةَ الرضوان..
رائحةَ الصباحِ؛ صباحِ أمّي..
وجهَها (ما زالَ فاتحةَ القصيدة والختامَ)..
وبيتَنا أيْ: فوحَ قهوتها..
معطّرةً.. مهيَّلةً..
مدوِّخةً.. مزغردةً..
ومغويةً.. مشمِّرةً لنا..
ندَّاهةً أبدًا..
ممغنِطَةً لكلِّ حواسِنا..
طوَّافةً فينا..
مسافرةً إلينا عند تلويح المغارب
واستطالةِ كلِّ فجرٍ.. واستطارتِهِ..
وفي المِحْماس أخضرُها المهادنُ
يرتدي، متقلِّبًا، نزفَ التوهّج..
بيتَنا أيْ: (شِرْشَ) أمّي الأسودَ المحلوجَ..
(شَنْبَرَها)..
وعصبةَ رأسِها بطرارِها الهدباءِ..
و(شْواحيّةَ) الخصر الهضيم..
ندى يديها حين توقظني صباحًا..
حين تكمرني تحيّتُها الغريقةُ بالرضا..
(تعتيبَها) المشجوَّ والمشجوجَ والشاجي..
كأنَّ حبالَها الصوتيّةَ اغتسلتْ
بدمع حمامةٍ برّيّةٍ غَيْمى
تحاورُ إذ تجاورُ ماءَ بحرِ جليلِنا..
تسفو الحنينَ إلى المكان المصطلي بالهجر..
تعطو خيطَ عودتنا السحيلَ..
(إلى متى سنظلُّ محكومين، كَرْهًا،
بالتغزّل بالثمالة في دنان الأمنياتِ.. الذكرياتِ..
الآتياتِ.. الراحلاتِ..
الليّناتِ.. القارساتِ..
الجارحاتِ.. النّازفاتِ..
المتعَباتِ.. المتعِباتِ..
الراوياتِ.. الصادياتِ..
الجائعاتِ.. الطّاعماتِ..؟)
وبيتُنا.. ما زلتُ أذكرهُ..
أنا حمّالُهُ أبدًا..
هنالك زارني ما زارني..
في مفرشي.. في حجرتي..
في بيتنا.. ليلًا..
تخطّفَ قلبيَ المعطوشُ سرَّ قصيدتي..
في بيتنا.. ليلًا..
تخبّطني، لأوّل مرّةٍ، عفريتُ شِعْري..
– مَنْ تكون إذنْ؟
– أنا سبطُ المخيّم..
والمخيّمُ ضيفُ (بَبّيلا) المؤقّتُ..
(هكذا قالوا لنا!)..
وأظنّهُ ابنَ الخطيئة..
غلّةَ المأساة؛ مأساتي..
دمي حبرٌ يسيلُ على مراياهُ الصقيلةِ..
جبهتي بابٌ يدورُ على مواجعِهِ حنينًا
أو جنونًا ربّما..
خوفي أنا أبدًا عليه..
وأحرفي مشتقّةٌ من حزنه الأبديِّ..
رقمُ هويّتي متغيّرٌ.. متكيّفٌ
مع رقم آخر طبعةٍ من منجز الشهداء..
قلبي نسخةٌ أصليّةٌ عنهُ..
شراييني امتدادٌ للحواري..
كلُّ بيتٍ فيه لي..
حيثُ البيوت هناك بيتٌ واحدٌ
(أعني هنا بيتَ القصيدة)..
ثروتي لغتي.. أعرّيها..
وأغسلها بماء العين..
أنشزها..
وأكسوها أماكنَ، أو ووجوهًا،
أو حوادثَ، أو نساءً، أو عواطفَ،
أو جنونًا، أو ولوعًا، أو نداءاتٍ حبالى..
أختلي ليلًا بها..
وعلى المسوَّدةِ / السريرِ أفضُّ حيرتَها..
وأدعكها.. وأرهزها.. وأبريها.. وأخصبها..
وأزرعُ شهوتي فيها..
أساهرها.. ألمّعها..
أعطّرها.. أدلّلها..
أشكّلها على كيفي..
وأشْكُلها بعروةِ قلبيَ المأخوذِ بالآتي وبالذكرى..
أطيّرُها حمائمَ أو كراكيَ أو بلابلَ أو نوارسَ
كي تنفِّضَ ما تكدَّسَ من جوًى فيها
على عتبات قريتنا اللطيمِ..
على ظلال النّاصريِّ وأمِّه..
وعلى البحيرةِ؛ ماؤُها دمعُ الذين تشعشعوا..
(طبريّةِ.. البلّورةِ البلجاءِ)..
أحملُها على كتفي.. أنا لغتي..
أعلِّقُها على الجدران حيثُ أمرُّ..
أرفعُها على عرش البلاغة..
(ربّما تخضرُّ أكثرَ..
ربّما تتكاثفُ الأعشابُ في أنفاسِها..)
أختارُ أنجمَها على مهلٍ بدقّةِ صيدليٍّ..
(ربّما ستضيءُ أكثرَ..
ربّما يحتاجُ أبناءُ السُّرى يومًا لها..)
وأرشُّها بالاستعارة والتشابيه الطريّةِ..
(ربّما يأوي إليها العاشقونَ..
وربّما تأوي إليها العاشقاتُ..)
ولي أنا صلصالُها..
وأصابعي منذورةٌ لفطامِها..
زجّاجُها أبدًا أنا..
وأنا الوحيدُ..
(وكيف هذا؟ هل نسيتُ؟
وهل سها قلبي إذنْ؟)
حسنًا سأشطبُ وحدتي..
الكلماتُ لي.. الكلماتُ عائلتي..
ولي قلقي.. أوزّعهُ على جسد القصيدة..
كي توائمني تمامًا..
كي أوائمها تمامًا..
والغريبُ أنا..
ولي منفًى أمارسُ فيه أشغالَ الحنين..
الآنَ في موسكو..
أحاولُ أن أهجّج وحشتي..
أصطافُ بين العابرينَ..
أحاورُ الفوضى النسيقةَ فيَّ..
أفترشُ الأغاني العاطفيّةَ..
ألتقي حزني الفلسطينيَّ يوميًّا..
وأحطبُ ذكرياتي..
أقرأُ الصورَ القديمةَ بالدموع..
أسوسُ أحلامي وأرفعُها إلى أعلى..
أحاولُ أن أصيرَ (أنا) وألبسَ صورةَ الطفلِ
الذي ما زال ينثرُ في زواريب المخيّم صوتَهُ
متكمِّشًا بثياب جدّتِهِ…
ثلوجُ (الساحةِ الحمراءِ) أصوافٌ منتَّفةٌ..
وتلك الموسكوفيّةُ لا يزورُ اليأسُ مسعاها..
فتسألُ (ربّما للمرّة الخمسينَ) عن حزني..
وأبقى طيَّ صمتي.. حائرًا..
إذْ كيف يمكنُ أن أشرِّحهُ وأشرحهُ لها؟
أيُّ اللغات تشيلهُ؟
حزني الفلسطينيُّ.. كيف إذنْ أترجمُهُ؟
– القصيدةُ؟ ما القصيدةُ؟ قلْ لنا..!
– إنّ القصيدةَ لعنتي..
قد قلتُ هذا في بدايتها لكمْ!
*شاعر فلسطيني