الميت والحي

2025-02-15

صالح الرزوق*

 

كنا ستة في العنبر، مات أربعة، وبقي اثنان. أنا وهو. ولا أعرف لحينه ما هو مرضي. سألت الطبيب عدة مرات، فانتهرني بقوله: ليس الآن. بعدين. ألححت بالسؤال على الممرضة، فهمست: تشنج في الرئة. سألت جاري: وهل يسبب التشنج كل هذه الآلام؟ كنت أشعر أحيانا بأنني مرفوع على الصليب. قال: إذا رافقه التهاب. ولكن في رأيه إنني متمارض، ومشكلتي نفسية، أو وعكة عارضة. والدليل، حسب كلامه، الدواء البسيط الذي أتناوله. وهو حبة بيضاء في الصباح، وحبة صفراء قبل النوم. وأكد لي أن الحالات الخطيرة تستوجب الحقن، والسيروم، إن لم يكن أيضا الحبة الهلالية. وكان هو يتعاطى كل هذه الأدوية. والسيروم وحده مشكلة، فقد منعه عن الحركة، وحرمه من متعة التقلب على السرير. كان يحب في الصباح أن ينام على جنبه الأيسر ليكون في مواجهة الباب، وليراقب حركة الأطباء وزوار المرضى في الممر. وفي المساء يفضل أن ينام على جنبه الأيمن ليتابع حركة الشمس. يسميها وهو يضحك أو يبتسم عين الله التي لا تغمض. وجاري عسكري برتبة ضابط، تعرض لإصابة أثناء التدريبات، وأجرى عملية في ساقه، ثم كشف التصوير عن ورم خبيث في عموده الفقري. وحين بلغه الخبر بدأ بالسخرية. كما يقول المثل: شر البلية ما يضحك. وقال للممرضة: هذا أفضل. وإذا كنت آمل بالمشي على عكاز، الآن أطمع بكرسي متحرك. وبعد أن انصرفت قال لي وهو يضحك: إن لم يحالفني الحظ بسيارة، سأفوز دون شك بالكرسي. وتابع: كلاهما سيان. هيكل معدني وعجلات.
بدأت أحسده على معنوياته. لو أنني بمكانه لدفنت رأسي تحت الوسادة، وبللت السرير بالدموع. بعد عدة أيام طلب مرآة صغيرة، واشترط أن يكون لها يد. وتوقعت أنه يريدها لأجل حلاقة وجهه، ولكن رأيته يفحص بها أسنانه.
سألته: هل تشكو من ضرس منخور؟
قال ونظره على المرآة: بل أتأمل حسنها وجمالها.
وتابع وهو يشخر من الضحك: كان الضابط السياسي في القطعة يقول لنا: جمال الأسنان مهم مثل حلقات النمو في الأشجار.
لم أفهم معنى النكتة، ما علاقة الفم بجذع الشجرة. لكنني جاريته بالضحك حفاظا على مشاعره. لاحقا أزعجني كثيرا بمرآته، فقد كانت تعكس ضوء الشمس على وجهي في الصباح الباكر. ولم أود أن أنبهه. ماذا يمكن أن تقول لإنسان بحكم الميت؟ ثم بدأ يلح بطلب السجائر، مع أن الطبيب منعها عنه. وفي النهاية توسل للممرضة. ولم تتعاون معه، والتزمت بالتعليمات.
قال لي: غبية. لا تعلم أن القوانين تخدم الأقوياء فقط، وتظلم الإنسان البسيط والضعيف.
ولم أختلف معه بهذا الخصوص. ولاسيما أنني رأيت صورة شعار العدالة على سيارة جاري القاضي بالمقلوب، وكأن العدل من الثديات المجنحة التي تنام في النهار ورأسها للأسفل. لا شك أنه خطأ غير متعمد، ومع ذلك يرمز لشيء موجود في العقل الباطن. لأسباب إنسانية استعملت الدهاء، وتدبرت علبة سجائر. استأثرت منها بلفافة وتركت الباقي له.
قال لي: شكرا ألف مرة.
ثم فتش في جيوبه. وحينما يئس رماني بنظرة عتاب وقال: هل معك ولاعة؟
احتاج تدبيرها ليومين إضافيين، وبعد ذلك تبدل طقس حياتنا. كنا ننام في النهار، ونسهر في الليل. كانت حولنا الأسرة الباردة، كأنها عيون المكان المغلقة لأشخاص غير موجودين. واعتدنا على مراقبة القمر، أو الحجر الفضي كما يسميه. وكان كل الوقت يدخن بشراهة خنزير يلتهم طعامه. وكان الدخان يتطاير فوق كتفيه بشكل أجنحة شفافة. وأصبح بنظري على هيئة ملاك دخل إلى عنبر الأمراض المزمنة بالخطأ.
كم لدينا في حياتنا من أخطاء غير مقصودة.
لا يمر علينا يوم لا تخترق فيه رأسنا فكرة فاحشة، أو لا تقترف يدنا خطأ جسيما، فلماذا نعتب على الملائكة إذا وقعت بخطأ واحد وبالصدفة…


*كاتب سوري









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي