لحميد عقبي : رواية «إيريس»… بين الحنين إلى الوطن والتماهي مع الآخر

2025-02-11 | منذ 4 ساعة

غلاف رواية «إيريس»محمد المخلافي*

 

أنادي إيريس قائلًا: «أنتِ تشبهين صنعاء، المدينة التي احتضنت كل فن، وتشبهين مدينتي بيت الفقيه، جنة الخلد.»
علمتني بعض الرقصات اللاتينية، خاصة السالسا، التي طالما حاولت إتقانها؛ رقصة تنبض بالعناق والملامسة الساحرة. في المقابل، علمتها رقصة الليوة اليمنية، إلى جانب رقصة الحقفة والتنيقزة التهامية. نتماهى مع الإيقاع، نذوب في الحركة، ونهدم كل الفواصل بيننا؛ فأنا أؤمن بها، وهي تؤمن بي، ويقل حديثنا عن «تلالوك». بهذه الكلمات، أبحث في رواية إيريس للكاتب اليمني حميد عقبي، المقيم في فرنسا بعيدًا عن وطنه، الذي يعاني من أزمات وصراعات داخلية. تعكس هذه السطور مشاعر الشوق والحنين، إذ يعبّر الكاتب عن صراعه الداخلي وتوقه إلى الهوية. يظهر ذلك جليًا في تشبيهه إيريس بصنعاء، المدينة التي احتضنت الفنون، وبيت الفقيه، التي تمثل جنة الخلد في ذاكرته. من خلال هذه الرموز، يُعبّر عقبي عن شغفه وحنينه إلى الوطن، بينما يسعى للتواصل مع ثقافات جديدة من خلال تعلم الرقصات اللاتينية، مثل «السالسا»، التي تمثل لحظات من العناق والمشاركة. تُبرز هذه الثنائية بين الفنون اليمنية واللاتينية التداخل الجميل بين الثقافات، حيث يتجاوز الإنسان الحدود الجغرافية ليخلق عالما جديدا من الفهم والتواصل. تلتقي الرقصات كما يلتقي الجسد مع الآخر، في تفاعل يتجاوز الكلمات، ليصبح الحديث عن «تلالوك» صدىً لعمق العلاقة الإنسانية. في هذه المقدمة، نستكشف كيف تنعكس الصراعات الثقافية والوجدانية في رواية «إيريس»، وكيف تُشكّل التجربة الشخصية للكاتب إطارا لفهم أعمق للوجود في زمن الغربة، حيث تصبح الفنون وسيلة للتواصل والمرور عبر الحدود.
تتألف الرواية من 107 صفحات، مقسمة إلى ثلاثة فصول، يتميز الفصلان الأول والثاني بتقاربهما في الطول، بينما يأتي الفصل الثالث أقصرهما. صدرت الرواية عن دار الدراويش للنشر والترجمة في أبريل/نيسان 2024. تُعد الرواية تجربة أدبية غنية تعكس عمق الأحداث وصراعات الشخصيات. من خلال سرد متقن، يتمكن الكاتب من تقديم شخصيات متعددة تمثل رموزا ثقافية ونفسية، مما يثري النص ويجعله أكثر تعقيدا.

شخصية إيريس هي المحور الأساسي للرواية، حيث تمثل تعقيدات النفس البشرية وصراع الهوية. تتأرجح إيريس بين التزامها بعائلتها وإيمانها بديانة «تلالوك»، وطموحها الشخصي إلى السفر والدراسة. يعكس هذا التوتر عمق تجربتها الإنسانية، حيث تسعى لتحقيق أحلامها وسط ضغوط المجتمع والتقاليد. فرناندا، الصديقة الوفية لإيريس، تجسد رمز التضحية والصداقة الحقيقية. تمثل الدعم العاطفي الذي تحتاجه إيريس في رحلتها، مما يضيف بعدا إنسانيا للعلاقة بينهما. تقدم فرناندا توازنا لشخصية إيريس، حيث تتفاعل مع التحديات المختلفة وتظهر قوة الصداقة في مواجهة المصاعب. مليكة، الشخصية العقلانية، تضيف طابعا فلسفيا للأحداث. تمثل وجهة نظر أكثر تفهما للأمور، وتساعد إيريس في استكشاف أفكار جديدة حول الحياة والهوية. من خلال مليكة، تظهر جوانب من الحوار الداخلي الذي يخوضه الأفراد عند مواجهة التغيرات الثقافية.

شخصية «تلالوك»، إله المطر لدى الأزتك، تضيف بُعدا أسطوريا وثقافيا للرواية. يُظهر الربط بين إيريس وتلالوك كيف تتداخل الأساطير مع الواقع، مما يعزز من ثراء النص. تطرح الشخصية تساؤلات حول المصير والوجود، حيث تتجلى الصراعات بين الإيمان والواقع. يتصاعد الإيقاع الدرامي في الرواية بشكل تدريجي، مما يعكس التوترات المتزايدة في حياة إيريس. تبدأ العواصف الغامضة في الظهور، لتصل إلى اكتشافها أنها قد تكون قربانا للإله. هذا التصعيد يدفع القارئ للتساؤل عن مصير الشخصيات، ما يجعل الرواية مليئة بالتشويق.
منذ الصفحات الأولى، تكشف الرواية عن بنية سردية متقنة تتشابك فيها العناصر بسلاسة وعمق. يتميز النص بتناسق سردي يمزج الماضي بالحاضر بانسيابية، ما يعكس قدرة الكاتب على التحكم في الزمن السردي. هذا التنقل الزمني يخلق شعورًا بالتداخل بين الأحداث، حيث تمتزج الخيوط الميثولوجية بالواقع المعاصر، مما يجعل القارئ يغوص في عالم الرواية وكأنه جزء منه. تتداخل الثيمات الرئيسية بشكل معقد، ما يضفي على النص ثراءً فريدا ويعكس عمق التجربة الإنسانية. في مقدمة هذه الثيمات، يبرز الحب كعنصر محوري، خاصة في العلاقة بين إيريس وصديقتها فرناندا، حيث يتجلى كقوة دافعة تتأرجح بين التضحية والانكسار. يظهر الحب في الرواية كمصدر للقوة بقدر ما يمكن أن يكون مكمنًا للضعف، ما يمنح الشخصيات بعدا نفسيا عميقا. إلى جانب الحب، يتناول النص صراع الهوية، الذي يتجسد بوضوح في شخصية إيريس. تعكس تجربتها توترا بين التزامها بعائلتها وقيم مجتمعها من جهة، وطموحاتها الفردية في السفر والدراسة من جهة أخرى. هذا الصراع يجعل القارئ يتساءل عن طبيعة الهوية، وكيف تتشكل بين تأثير التقاليد والتوقعات المجتمعية. هذه التناقضات تمنح شخصية إيريس عمقا خاصا، وتعزز من تواصل القارئ مع تجربتها، مما يضفي على الرواية بعدا إنسانيا مؤثرا.

علاوة على ذلك، فإن الطقوس الميثولوجية والعناصر الثقافية المرتبطة بحضارة الأزتك، تضيف بعدا إضافيا لهذه الثيمات، حيث تطرح تساؤلات حول الهوية الثقافية وتأثيرها على الأفراد. تتداخل هذه العناصر مع الحب وصراع الهوية لتشكل شبكة معقدة من العلاقات الإنسانية، ما يجعل القارئ يتأمل في كيفية تأثير الحب على القرارات والهوية في عالم معقد. يتسم الأسلوب اللغوي في الرواية بالغنى والتنوع، مما يعكس براعة الكاتب في استخدام اللغة والصور والاستعارات. يتميز النص بلغة شاعرية تجمع بين البساطة والعمق، حيث تتناغم الكلمات لتخلق أجواءً مفعمة بالعواطف والتجارب الإنسانية. تتجلى الصور البلاغية بشكل واضح، حيث يستخدم الكاتب الاستعارات والتشبيهات لتعزيز المعاني وإضفاء أبعاد جديدة على الأحداث. على سبيل المثال، قد تُستخدم استعارة المطر كرمز للتجديد أو الألم، مما يربط بين شخصية إيريس وإله المطر «تلالوك». هذا الربط بين الشخصيات والعناصر الطبيعية يعزز من الشعور بالتداخل بين الواقع والميثولوجيا، ما يمنح القارئ تجربة قراءة غنية. كما أن الأسلوب اللغوي يميل إلى الوصف التفصيلي، حيث يقدم الكاتب مشاهد حية تُشعر القارئ بأنه يعيش الأحداث. تساهم هذه التفاصيل في بناء صورة واضحة عن الشخصيات والأماكن، مما يعمق من فهم القارئ للعواطف والتوترات التي تمر بها الشخصيات.
النمط الأدبي المستخدم في الرواية يمزج بين السرد والتأمل، حيث يتيح للقارئ استكشاف الأفكار الفلسفية والعميقة المتعلقة بالهوية والحب. هذا الأسلوب يعزز من تأثير المعاني، حيث يُدعَى القارئ للتفكير في التجارب الإنسانية بشكل أعمق. من خلال هذا التفاعل بين الأسلوب والمعنى، يتمكن الكاتب من نقل مشاعر الشخصيات بشكل مؤثر، ما يجعل القارئ يتعاطف مع معاناتهم وآمالهم. يتجلى في رواية «إيريس» عمق العلاقة بين أحداثها ومعاناة الكاتب في بلاد الغربة، حيث يعكس حميد عقبي شوقه العميق إلى وطنه الذي يرزح تحت وطأة الحروب والصراعات. تصوّر الرواية تجربة إنسانية غنية، حيث تتداخل مشاعر الفقد والحنين مع البحث عن الهوية وسط ثقافات جديدة.


*كاتب وصحافي يمني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي