![](/img/grey.gif)
حاورها: عبد اللطيف الوراري*
إيمان الخطابي شاعرة مُقلّة، رأت النور في تطوان التي هي امتداد الأندلس وخيالها في كلّ الأوقات. عُرفت بكتابتها الشذرية، كما في ديوانيها «البحر في بداية الجزر» 2001، «حمّالة الجسد» 2014، بوصفها خيارا فنّيا وجماليا يعكس طابع شخصيتها المتحفظة وصدقها ومزاجها حيال واقعها الاجتماعي والعالم الذي تقيم فيه، مثلما يعكس ترفُّعها وبساطة مقولها الذي يسلس لها القياد لقول ما تُحبّه ببساطة وإيثار، ولا تأذن من بلاغة التجميلات لقول ذلك في مواجهة العالم ومأزقه الأخلاقي الذي ينحدر إليه، أو للتنفيس عن الحبسة العظيمة التي تسكن سيرتها المسكونة بملفوظات أنا جريحة، ويائسة وغاضبة تحمل في خوفها وقلقها وحيرتها وجنونها أعراض الكتابة وأخلاقياتها في آن. تشعر بأن كلماتها وما تشفُّ عنه داخل الحوار، كأنها صيحة حقيقية تسلّلت إليه مثل ينبوع نهر ساخن، وما زالت تصدر عن ألف شذرة وشذرة.
*أسألك ابتداء، ما الذي قادك إلى الشعر؟ متى سمعت بهذه الكلمة السحر لأول مرة؟ في أي عمر وجدت نفسك تكتبين؟
– لم يكن الشعر بعيدا عني في أي لحظة من لحظات إدراكي لوجودي في هذا العالم. لم تكن هناك مسافة بيني وبين الشعر حتى أذهب إليه؛ كان في روحي وبين جوانحي وحولي، وفي كل حركة وسكون محيط. احتجتُ بعض الوقت فقط كي أعيّن له اسما أو اصطلاحا يُسمّى به. ولعل هذا ما فعلته حين انتظمتُ في مقاعد الدراسة، وبدأتُ أخطُّ أولى محاولاتي في كتابة الشعر، ومحاكاة ما كنتُ أحفظهُ وأطالعهُ من قصائد وأناشيد ومقطوعات شعرية. كنت سريعة الحفظ والاستيعاب لقصائد الشعر العربي، المتضمنة في المنهج الدراسي، وخارج المنهج. تفاعلتُ دائما مع لغة الشعر، وألفيتها اللغة الأكثر دقة ونفاذا وعمقا؛ إنها اللغة التي تُحدث في داخلي تأثيرا وتغييرا، وتعبر عن أحوال نفسي، وعن وجودي باقتدار تام.
كنت دائما طفلة حالمة، لكني كنت حزينة أيضا، وبحاجة لعزاء ما. وقد وجدت هذا العزاء في الشعر والكتب. لذلك خضتُ تجربة الكتابة والنشر في سن مبكرة، ودون وعي حقيقي بتبعات ذلك. كنتُ أحب أن أوصل صوتي، وأبُثَّ شكواي وهواجسي للآخرين، وهذا ما ظننتُ في مرحلة ما أن الشعر قد حقّقهُ لي وأنا في عمر السادسة عشرة، أو السابعة عشرة.
*تنتمي إيمان الخطابي إلى جيل التسعينيات المغربي، الذي شهد حضور الصوت النسائي بقوة. ما هي أسباب هذا الحضور؟ وإلى أي مدى شكل متخيل المرأة الشاعرة إضافة نوعية في المتن الشعري؟
– نشرتُ أول محاولة شعرية لي في صفحة «الباب المفتوح» بجريدة «العلم» المغربية في مستهل يناير/كانون الثاني سنة 1992. كان ذلك بتحريض خفي من رغبتي في منافسة شعراء مدينتي، وتأكيد حضوري بينهم. كانوا يفوقونني سنا وتجربة، وكانوا يحيون أمسيات لقراءة الشعر هنا وهناك. تطوان مدينة حراك وإشعاع ثقافي كما تعرف، وهذا كان دافعا لي كي أندس بين مجموعة أسماء شعرية واعدة في التسعينيات، وأبدأ النشر في صفحات ثقافية مقروءة من طرف جمهور من الكتاب والمثقفين. ولعل ما يميز فترة التسعينيات تحديدا هو صعود أسماء شعرية نسائية للواجهة؛ بعضهن كن مقترنات بمثقفين وكتاب فاعلين وصانعي المشهد الثقافي العام للبلاد، وبعضهن منتميات لأحزاب سياسية تعد الممارسة الثقافية جزءا أساسيا من وجودها وتأثيرها، بينما جاءت البقية من مشارب ثقافية واجتماعية مختلفة.
في فترة ما، كان ينظر لهؤلاء الشاعرات على أنهن حلية للمنابر الإعلامية، والمجالس الثقافية؛ نوع من الانفتاح الاجتماعي والحضاري الشكلي لتوازن المشهد العام، ثم سيتضح في ما بعد، أن هؤلاء الكاتبات لا يرغبن في حضورٍ من هذا النوع. إن الكاتبة أو الشاعرة تحمل صوتا حقيقيا وخطابا فكريا وإنسانيا، تريده أن يصل. لا يسمح السياق هنا بالحديث عن خصائص هذا الخطاب الشعري وطبيعته وملامحه الموضوعية والفنية – إنْ سلمنا أنه فعلا خطاب شعري مختلف- لكنه في كل الأحوال شكّل خطابا شعريا موازيا وقرينا إبداعيا وفنيا في المتن الشعري والأدبي المغربي.
أعترف هنا بأن عدد الشاعرات الحقيقيات قليل جدا، وهو حال الشعراء عموما. لكن لا أخفي إعجابي واعتزازي بشاعرة مقتدرة مثل أمينة المريني مثلا، أو إعجابي بفرادة وجاذبية شاعرة مثل وفاء العمراني، ثم شاعرات أخريات برزن قبل الجيل الذي أنتمي إليه وبعده. لم يكن إعجابا سطحيا بنساء يكتبن شعرا، ويُنشدنه في المحافل وفوق المنابر، بل كان إعجابا بشاعرات مثقفات وموهوبات ومتمكنات من صنعة الكتابة الشعرية. رغم اختلاف الاختيارات الفنية والذائقة الأدبية، إلا أني أنوه بالشاعرة التي تواصل الخلق والكتابة في ظروف وبيئة ثقافية لا تشجع على ذلك.
*تعرف عليك القارئ شاعرة شذرية ومُقلّة. بمن تأثرت حتى استقللت في أسلوبك الشعري الذي يمزج بين اقتصاد اللغة والانفتاح على التجربة الشذرية؟
– نشرتُ أول ديوان شعري سنة 2001 بدعم من مؤسسة اتحاد كتاب المغرب، وكان كتابا شعريا صغيرا وشذريا؛ جمعت فيه ما اعتقدت أنه قابل للصمود بضع سنوات، قبل أن يصير نصا متجاوزا بالنسبة لي، ثم نصا متجاوزا في ما بعد لقارئ مفترض. ما فاجأني أن الكتاب الصغير أحدث أثرا إيجابيا حينها، وصار جواز انتمائي لمدينة الشعراء، دخلت الآن سجل الشعراء المغاربة، ولا يمكنني الخروج أو التراجع. كانت بحوزتي دائما نصوص شعرية مكتوبة بتقنيات فنية، وأساليب مختلفة؛ كنت أجرّب باستمرار. لكن، ولسبب ما، كانت المقاطع الشذرية المحكمة أثيرة لديّ، ولدى المتلقي أيضا؛ تؤثر فيه، وتعلق في ذاكرته، مقاطع مركزة ومكثفة. وصفها الناقد المغربي نجيب العوفي في قراءة لديوان «حمّالة الجسد» بأنها طلقات شعرية، وهو تعبير دقيق جدا، ومعبر عن أثر النص الشذري في خلق دهشة كبيرة بنص صغير ذي حمولة دلالية غنية ومفتوحة. لا أعرف كيف استقر عندي هذا الاختيار الفني، وصار سمة تميز كتاباتي؛ ربما لأني كنت قليلة الكلام، متحفظة بطبعي، وبفعل ظروف نشأتي، مترددة في الإفصاح عن أشياء كثيرة جارحة ومؤذية، فلجأت إلى التكثيف والاختصار، وما يشبه التواري خلف جدار، أطلق السهم الصغير على بعد مسافة، وأركض هاربة.
انظر مثلا نص «سجن» في ديوان «البحر في بداية الجزر»:
«يُغلّق النوافذ
يُغلّق الأبواب
يضعُ على عتبتي حارسا
أحوّلُ الحارس ساعي بريد
وأضحكُ عاليا».
هل كان ممكنا ان أفصح وأسترسل أكثر مما فعلت في حين كتابة هذا المقطع؟
إجابتي هي لا. كانت لديّ رسائل بصيغة تلغراف، ونداء استغاثة مشفر، ينبغي أن يصل قبل ان يصادر.. حتى إن الزخارف اللغوية لم تشغلني كثيرا، وملت باستمرار إلى البساطة والوضوح. هذا اختيار ينسحب على جميع مناحي حياتي الشخصية. لذا فإني حين اكتشفت في مرحلة ما شاعرا مثل أنسي الحاج، ومحمد الصباغ، وبعد ذلك شعراء مغاربة وعربا يكتبون الشذرة الشعرية، ثم اكتشفت شعر «الهايكو» المكتوب بمختلف لغات العالم، لكن له أما واحدة هي الطبيعة… حين اكتشفت هذا، عرفتُ أي مسار فني أحب أن أسلك.
تدهشني أيضا أشعار الصوفية وكتاباتهم التي لا تبلى لغتها ولا تتقادم؛ لغة حارة ومكثفة، بطاقة روحية وتعبيرية هائلة، بخلاف الأجناس الأدبية الأخرى، فإني أحب الشعر بأنماطه كلها، ومدارسه الكلاسيكية والجديدة، لكني لا أرى نفسي ولا أحب التعبير عنها، سوى بأسلوب يمثلني ويمثل عصري وانتمائي وذائقتي.
*إلى أي حد يمكن القول إن شعرك الشذري يمثل سيرة متشظية لذات أنثى متأففة ويائسة من عالم غارق في التجميلات؟
– لا أعرف ما إذا كان بوسعي أن أكون دقيقة في الإجابة على هذا السؤال، ربما أجبت على جزء منه ضمن جوابي على السؤال السابق؛ فمهما أطلنا الوقوف أمام مرآتنا، لن يكون بمقدورنا الإحاطة بصورتنا الكاملة. سنرى أجزاء وملامح معينة وتغيب عنا أجزاء وملامح أخرى. أبذل جهدا لأكون صادقة وحقيقية في واقعي وفي الكتابة، ليس بدعوى المثالية، بل لأني نجوتُ مرارا بفضل مصارحة نفسي ومواجهتها. قد حاولت أن أفعل الأمر نفسه مع المحيطين بي، تخنقني الكلمات التي أبتلعها، وتسبب لي ضيقا حين لا ألقيها في وجه العالم. أحاول ألا أكون قاسية في حكمي ونظرتي للحياة والناس، لكن الواقع يثبت باستمرار أننا كائنات في منتهى القسوة والوحشية… لهذا ليس غريبا أن أبدو متذمرة ويائسة؛ فشعري يقدم صورة عني وعن واقعي بالتأكيد، وهو شعر كتبت فيه شذرات من سيرتي التي عشتها فعلا، كنت منشغلة منذ البداية بالتعبير عن الجرح العميق لهذه الذات، عن تمزقها، وخوفها، وشتاتها، وحيرتها.. لست متأففة كما وصفتني، بل غاضبة ومستاءة جدا، ولم تعد الكلمات مسعفة للتعبير عن ذلك. صار ألمي الآن وحشا عملاقا، تصعب منازلته بالشعر والكتابة. لا أعرف ما إذا كانت هذه الأعراض هي أعراض جينات الشعر وسماته، أم أن هذا الأمر مرتبط بالمنحدر الأخلاقي الذي ينزلق إليه عالمنا، والمأزق الوجودي الذي نحن عالقون فيه بلا حول ولا حيلة.
*هل لك طقوس وحالات مخصوصة في كتابة القصيدة؟ وهل تعودين إليها من أجل تنقيحها، وإعادة كتابتها حتى تدق أكثر؟
– ليست لي طقوس مخصوصة في الكتابة، أو أوقات محددة لفعل ذلك، لكنني أحتاج تركيزا وصفاء ذهنيا لأكتب. لحظة كتابة الشعر عندي تشبه انتظار حدوث معجزة صغيرة، باب مقفل ينفتح من تلقاء نفسه دون سابق إنذار، لحظة زلقة مثل جلد سمكة صغيرة، خاطفة وسريعة، تنفلت باستمرار إن لم تكن مستعدا لاستقبالها، وتثبيت لحظتها الأولى. زخم اللحظة الأولى هو ما يترتب عليه كل شيء بعد ذلك. تضع الفكرة الخام كما وردت على قلبك وعقلك، ثم تعدلها وتدقق النظر فيها لاحقا. بعض النصوص تولد كاملة وقوية وسليمة، لا تحتاج لعناية تذكر. لكن نصوصا أخرى تتطلب إعادة نظر وتصويب وتعديل، خاصة إذا كانت نصوصا طويلة ومركبة. أنا من الذين يهتمون بالتفاصيل، ويدققون في الفكرة والكلمة، لذلك أبدو مقلة وغير راضية عن معظم ما أكتب. أحتفظ بخلاصة الخلاصة، وأتخلى عن الباقي. بعد أن أكتب النص وأقرؤه بضع مرات، أتركه لفترة زمنية معينة، أعود لتفحصه مرة ثانية وثالثة ربما، ثم أقرّرُ مدى صلاحية النص الشعري للتداول.
*كاتب مغربي