صوت الجياع في الشعر العربي: حكايات من الماضي والحاضر

2025-02-03

صلاح عبد الستار الشهاوي*

 

الجُوعُ: نقيض الشِّبَعِ، اسم للمَخْمَصةِ، والفعل جاع يَجُوعُ جَوْعاً وجَوْعةً ومَجاعةً، فهو جائعٌ وجَوْعانُ، والمرأَة جَوْعَى والجمع جَوْعَى وجِياعٌ وجُوَّعٌ وجُيَّعٌ، وجاعَ إليه: عَطِشَ، واشْتاقَ. وجائِعَةُ الوِشاحِ: ضامِرَةُ البَطْنِ، الجمع: مَجايِعُ. وأجاعهُ: اضْطَرَّه إلى الجوعِ، كجَوَّعَه. و»أجِعْ كَلْبَكَ يَتْبَعْكَ»، أي: اضْطَرَّ اللَّئيمَ بالحَاجَة لِيَقَرَّ عندَكَ. وتَجَوَّعَ: تَعَمَّدَ الجوعَ. والمُسْتَجيعُ: من لا تَراه أبداً إلاَّ وهو جائِعٌ.
والجُوع: هو لدغ ـ قرص – بالمعدة يحس به الإنسان لطول انتظارها ما تهضمه بعد فراغها من هضم الطعام السابق (خُلُوُّ المعدة من الطعام).
والجوع هو وسيلة الجسم للتعبير عن قرب فقد الجسم للغذاء والحاجة إلى تناول أطعمة أخرى. يمكن أن يؤدي الجوع إلى الإصابة بسوء التغذية.
وشأن البشر جاع بعض الشعراء فجادت قرائحهم بالتعبير عن هذا الشعور فكانت هذه الأبيات:
البداية نجدها عند عروة بن الورد العبسي حيث يقرن الجوع بالعيال الذين يُزيدون صورة الجوع تأثيرا وإيلاما، مما يسوغ له ارتكاب أعمال عدوانية يلومه عليها مجتمعه تسويغا يخلصه من الإحساس بالذنب، فكيف لا يعذر وقلبه يتفطر وهو يرى عياله قد دب فيهم الهزال، حتى ثقلت أيديهم فأصبحوا لا يرفعونها إلاَّ بجهد:
وَمَن يَكُ مِثلي ذا عِيالٍ وَمُقتِراً مِنَ المالِ يَطرَح نَفسَهُ كُلَّ مَطرَحِ
لِيَبلُغَ عُذراً أَو يُصيبَ رَغيبَةً وَمَبلَغُ نَفسٍ عُذرَها مِثلُ مَنجَحِ
لَعَلَّكُمُ أَن تُصلِحوا بَعدَما أَرى نَباتَ العِضاهِ الثائِبِ المُتَرَوِّحِ
يُنوؤونَ بِالأَيدي وَأَفضَلُ زادِهِم بَقِيَّةُ لَحمٍ مِن جَزورٍ مُمَلَّحِ
أما الشاعر السليك بن السلكة فيقول إنه عندما يشعر بالجوع في الصيف ـ الذي يكثر فيه اللبن في البادية – يأخذه الدوار حين يقف فتظلم عيناه:
وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني إذا قمت تغشاني ظلال فاسدف
أما المزرد يزيد بن ضرار فيصور ما يعانيه وأسرته من ألم الجوع فيقول إن الجوع أناخ عليه هو وأسرته باستمرار، كما وصف هزال كلابه الست التي تساعده على الظفر بالصيد، حتى أصبحت السلاسل تحدث في عنقها صوتا من شدة نحافتها من فرط الجوع، وإنه طلب المعونة من أصحابه، لكنه لم يظفر منهم بطائل، ثم عمد إلى وصف هزال صبيته، الذين عضهم الجوع فشبههم بالسهام التي لا نصال لها، فهم في ضعفهم وسوء حالهم ونحولهم مثل هذه السهام، ثم وجه حديثه لزوجته يسألها عن وجود طعام، فأجابته بالإثبات: نعم هذا الطوى. ساخرة بهذه الإجابة التهكمية المتضمنة للمرارة، إذ لا طعام ولا ماء، فأسلم نفسه للسهر: لأن النوم أبى عينيه بسبب معاناته الشديدة للجوع:
فعدّ قريض الشّعر إن كنت مغزرا فإن غزير الشعر ما شاء قائل
لنعت صباحيّ طويل شقاؤه له رقميّات وصفراء ذابل
بقين له مما يبرّي وأكلب تقلقل في أعناقهنّ السّلاسل
سخام، ومقلاء القنيص، وسلهب وجدلاء، والسّرحان، والمتناول
بنات سلوقيّين كانا حياته فماتا فأودى شخصه فهو خامل
وأيقن إذ ماتا بجوع وخلّة وقال له الشّيطان: إنّك عائل
فطوّف في أصحابه يستثيبهم فآب وقد أكدت عليه المسائل
إلى صبية مثل المغالي وخرمل رواد، ومن شرّ النساء الخرامل
فقال لها: هل من طعام فإنّني أذمّ إليك الناس، أمّك هابل
فقالت نعم، هذا الطّويّ وماؤه ومحترق من حائل الجلد قاحل
فلما تناهت نفسه من طعامه وأمسى طليحا ما يعانيه باطل
تغشّى، يريد النّوم، فضل ردائه فأعيا على العين الرّقاد البلابل.
أما عنتره فقد سبق إلى تصوير نفس العربي الأبية وصبره وتحمله لألم الجوع للحفاظ على أنفته وكرامته فقال:
ولقد أبيت على الطوي وأظله حتى أنال به كريم المأكل.
أما الشاعر أبو خراش الهذلي فيقول، إنه أقفر من الزاد أياما ثم مرّ بامرأة من هذيل جزلة شريفة، فأمرت له بشاة، فذبحت وشويت، فلما وجد بطنه ريح الطعام قرقر، فضرب بيده على بطنه، وقال: إنك لتقرقري لرائحة الطعام، والله لا أطعمت منه شيئاً، ثم قال: يا ربة البيت، هل عندك شيء من صبر أو مرّ؟ قالت: تصنع به ماذا؟ قال: أريده، فأتته منه بشيء، فاقتحمه، ثم أهوي إلى بعيره فركبه، فناشدته المرأة، فأبي، فقالت له: يا هذا: هل رأيت بأساً، أو أنكرت شيئاً، قال: لا والله، ثم مضي وأنشأ يقول:
وإني لأطوي الجوع حتى يملني فأحيا لم تدنس ثيابي ولا جسمي
وأصطبح الماء القراح فأكتفي إذا الزاد أضحى للمزلج ذا طعم
أرد شجاع الجوع قد تعلمينه وأوثر غيري من عيالك بالطعم
مخافة أن أحيا برغمٍ وذلة وللموت خير من حياة على رغم
وقال الصفدي:
إلى متى أنا لا أنفك في بلدٍ رهين جيمات جورٍ كُلها عَطبُ الجوع والجري والجيران والجدري والجهلُ والجُبن والجرزان والجربُ.
أما الشاعر السراج الوراق فجعل الجوع أداة للصلح بين الغريمين التقليدين القط والفار، فشكل الجوع الجمع بين المتخاصمين، واللجوء إلى الحيوان في عرض الشكوى يمثل المصداق الأكبر للحس الاغترابي الذي يكابده الشاعر فيقول:
قدَ أَصلَحُ الجُوع بَينِّ القِطِ وَالفَار عِندِيِ لإدبارّ حَظيَّ أَي إِدْبار
وَرَق هذا لِذاِ من سُقْمِه فَهُما كَعَاشق وخَيالُ نَحوَهَ ساري
وَ فيِ الشَّدائد ما يُنسِيَ الحَقُود ومَا يُثنيَ الحَسُود إلىُ حب وإيثار
فَلَوَ رَأيْتَهما شَاهَدْت مِن عَجَب ألاَ رأَيْت وَلمَ تَسمع بَأخبار
هذا على مَطبخيِ المَبرود فيٍ حُرَق وَذا على مَخْزَنيِ المَكْنُوس فيَ نار
وَ مَاَ بي القِط هَمِ الفَار أذْهَلَنيُ عنه وَ ضَاعَفُ مِنهَ شُغْل أَفكاري
مَا كاد يَعْثَر فيِ داري ِلِشِقْوَتهٍ بِقَمْحَة لا ولاَ الأَهْلُون في الِدَّار.
أما الشاعر البائس عبد الحميد الديب فيصف بؤسه وحرمانه وجوعه قائلاً:
أفي غرفتي يا رب أم أنا في لحدي ألا شد ما ألقى من الزمن الوغد
فأهدأ أنفاسي تكاد تهدها وأيسر لمسي في بنايتها يردي
تراني بها كل الأثاث، فمعطفي فراش لنومي، أو وقاء من البرد
أرى النمل يخشى الناس إلا بأرضها فأرجله أمضى من الصارم الهندي
تحملت فيها صبر أيوب في الضنى وذقت هزال الجوع أكثر من غاندي.
أما الشاعر محمد الماغوط، فيقول في قصيدته نجوم وأمطار من ديوانه «غرفة بملايين الجدران»:
في فمي فم آخر
وبين أسناني أسنان أخرى
يا أهلي.. يا شعبي
يا من أطلقتموني كالرصاصة خارج العالم
الجوع ينبض في أحشائي كالجنين
إنني أقرض خدودي من الداخل
ما أكتبه في الصباح
أشمئز منه في المساء
أصابعي ضجرة من بعضها
وحاجباي خصمان متقابلان
أصعد وأهبط كخنجر القاتل
معلقا تعاستي في مسامير الحائط
غارسا عينيّ في الشرفات البعيدة
والأنهار العائدة من الأسر
……..
أريد أن أضمّ إلى صدري أي شيء بعيد
زهرة بريّة
أو حذاء موحلا بحجم النسر
أريد أن آكل وأشرب وأنام
وأنا في لحظة واحدة.
أما الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب فيقول في قصيدته أنشودة المطر:
أصيحُ بالخليج: «يا خليج
يا واهبَ اللؤلؤ والمحارِ والردى»
فيرجع الصدى كأنّهُ النشيج:
«يا خليج: يا واهب المحار والردى»
أكادُ أسمعُ العراقَ يذخرُ الرعود
ويخزنُ البروقَ في السهولِ والجبال
حتى إذا ما فضّ عنها ختمَها الرجال
لم تتركِ الرياحُ من ثمود
في الوادِ من أثر
أكادُ أسمعُ النخيلَ يشربُ المطر
وأسمعُ القرى تئنّ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيفِ وبالقلوع
عواصفَ الخليجِ والرعود، منشدين
مطر.. مطر.. مطر
وفي العراقِ جوعٌ
وينثرُ الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبعَ الغربانُ والجراد
وتطحن الشوان والحجر
رحىً تدورُ في الحقولِ.. حولها بشر
مطر
مطر
مطر
وكم ذرفنا ليلةَ الرحيل من دموع
ثم اعتللنا – خوفَ أن نُلامَ – بالمطر
مطر
مطر
ومنذ أن كنّا صغاراً، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطلُ المطر
وكلّ عامٍ – حين يعشبُ الثرى – نجوع
ما مرَّ عامٌ والعراقُ ليسَ فيه جوع
مطر
مطر
مطر
في كلّ قطرةٍ من المطر
حمراءُ أو صفراءُ من أجنّة الزهر
وكلّ دمعةٍ من الجياعِ والعراة
وكلّ قطرةٍ تُراقُ من دمِ العبيد
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد
أو حلمةٌ تورّدتْ على فمِ الوليد
في عالمِ الغدِ الفتيّ واهبِ الحياة
مطر
مطر
مطر
سيعشبُ العراقُ بالمطر.
أما الشاعر محمد جبر الحربي فيتخذ من الجوع ستارا ليدخل من ورائه إلى شيء معنوي يجمل رسالته، محمّلاً بالأسئلة، باحثاً، ومعزّزاً للحق والخير والحب والجمال والسعادة والعدالة والمساواة والحرية، ساعياً لخير بني الإنسان في كل مكان، فما بالك بالأقربين.. مجنّداً جوعه وولعه في سبيل النصر والمجد والأمن، نازفاً إنْ لمْ يتحقق مراده قائلا:
يَا عَبْلُ بي جُوعٌ وَطَرْفي لَمْ يَنَمْ
لاَ السيْفُ سَيْفي في الغُبَار
ولاَ القَدَمْ
فَعَلاَمَ يَحْتَاطُونَ من لَوْني
وَيُرْعبُهُمْ لسَاني
وَأنَا السنينُ تَمُرّ لَمْ أبْرَحْ مَكَاني
وأنَا القَصيدَة ُ لَمْ تَتمْ
أما الشاعر اليمني عبد الله البردوني فيقول:
لماذا لي الجوع والقصف لك؟
يناشدني الجوع أن أسألك
وأغرس حقلي فتجنيه أنت
وتسكر من عَرَقي منجلك
ماذا؟ وفي قبضتيك الكنوز
تمد إلى لقمتي أنملك
وتقتات جوعي وتُدعى النزيه
وهل أصبح اللص يوما مَلَكَ؟
لماذا تسود على شقوتي؟
أجب عن سؤالي وإن أخجلك
ولو لم تجب فسكوت الجواب
صحيح.. يردد ما أنذلك.
وختاماً:
يقول محمد مهدي الجواهري:
نامي جياع الشعب نامي حرستك آلهة الطعام


*كاتب مصري








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي