حوارية الطين: كيف جسدت منحوتات العراقي عباس جابر الألم الإنساني؟

2024-11-25

جاسم عاصي*

ليس جديداً اقتران الصلصال بالبنية الفكرية. وكما لم تكن جديدة محاورته، فالطين مادة الإنسان الأول التي اتخذها وسيلة للتعبير عن مكنوناته ورؤاه إزاء الوجود. فهو مادة الخلق الأولى، التي أشارت إليها الملاحم وقصص الخلق. فقد عمد الإنسان القديم في أولى اجتراحاته من بعد تأملاته بالكوّن وتطوّر ملَكاته العقلية، وشعوره إزاء ما كان يجري له جرّاء قسوّة الطبيعة وحيواتها. بمعنى عمل الإنسان على تحويل المشهد من بنيته الظاهرة والمرئية إلى اشتغال الفكر وما تطرحه موجوداته من أسئلة مختلفة، هي بمثابة انعكاسات لمعاناته. لذا صاغ خصائص وقوانين ساهمت في إعادة صياغة العلاقة مع العالم. وعلى صعيد الفن، نجد أن الطين شكّل حقيقة ذاتية للإنسان، أي أكد هُويته الذاتية، التي اتسعت مساحتها باتجاه خلق أسس الكتابة (الصورية والمسمارية) إذ بقى الطين ُطرساً للكتابة والتدوين، بعد أن كان مادة لخلق الأشكال، فقد أضيفت له وظيفة أخرى. إذ تدرج في خلق الأشكال وصولاً إلى الكتابة، ثم إلى تشييد العمارة وطلي الكهف وتزيين جدرانه.

وباتساع مساحة العائلة وإيواء أفرادها في الكهف، نشأت الصلة هذه. فكان الانعكاس الظاهر من خلال النموذج الذي يعكس حالة الرعب مما هو مُهَدِدْ لحياته. حتى نماذج الآلهة التي أسبغ عليها شيئاً من الغرابة والدهشة والمطاولة في ما يمنحه من بنى خارج الفعل العفوي، بمعنى اقتران النموذج بالفكر بأبسط بنيته التكوينية. وفي المحصلة النهائية تمنحنا بُعداً ينطوي على فعالية فكرية. من هذا نرى أنَّ الاهتمام بما يوحي به النموذج (الشكل البنائي) مُكرّس للتعبير عن رؤى متمركزة في العلاقة بين الإنسان والوجود (الكوّن) وهذا غير مُحدد بمستوى معيّن من المعرفة الصاعدة في تنفيذ المعنى في النحت، بقدر ما تخلقها الموهبة المرّحلة جينياً. ولنا في نماذج منحوتات الفنان الفطري منعم فرات دالّة على ما ذكرنا، ما وضعنا مركزياً في صلب الشكل المنحوت، لأنه ذو محمولات فكرية يمكن الاستدلال بها لاستنتاج نوع من المواءمة بشأن المعنى المطلق، وليس الضيّق والمحدود. كما لنا في إشارات لوّحات الفنان علاء بشير، التي تنتمي في شكلها الظاهر إلى الشكل النحتي بما حملته من إمكانية توظيف الجدار.

ما تعبّر عنه المنحوتة بشكل عام يتمركز في ما تمنحه من فكرة تتسع مساحتها باتجاه بنية أكبر، فتشمل الرؤى الوجودية، وتجسيد فلسفة الاستلاب والمحو والتجاوز، ما خلق الحدود القاطعة بين رغبات الإنسان ومنطق القمع والمحو والمصادرة، ونقصد القوى التي تعمد وجودياً على تنفيذ مشروعها، حتى لو كلف هذا محو وجود الآخر. ولعل الحرية في الفكر، والعمل على إطلاق الطاقات الذاتية، والوجود في المكان المناسب من باب الرؤى الذاتية. مثل هذا يشكّل مدار ما نعنيه بالبنى الفكرية. فالإنسان يجد نفسه مقموعاً في مجاله ومطروداً عنه، وهذا القمع شكّل عنصر إعاقة، ترتبت عليها فعاليات أخرى، تنتظر غيرها من براهين الأزمنة. لذا نجد التعبير هذا مشروعاً لعكس مجالات مثل هذه الفعاليات المضادّة لوجود الإنسان وحيويته في مجاله، إذ تنعكس هذه الفعالية الذهنية على الأشكال التي يصوغ هيئاتها على مستويات مختلفة، معبّرة عن بنية قارّة بالنسبة له.
إن الألم والتوّجع والانكسار الإنساني؛ هي البنى التي تدفع الفنان إلى ملاحقة ما يشعر به الآخر من خلال وعي صاعد للبنية التي خلقت مثل هذه المتضادات، أي ثمة فعل وردّة فعل على صعيد الصراع في الوجود. وإن مرحلة تطوّر الأفكار انتظمت في فاعل الصراع لخلق فلسفة جديدة، ورؤى متمكنة من تهيئة مناخ مناسب للوجود الإنساني.
صغنا هذه المقدمة، التي هي بالتأكيد لا تلّخص الفعاليات التي خلقتها منحوتات الفنان الفطري عباس جابر، بقدر ما تُهيئ للمداولة مع ما تطرحه منحوتاته.

تعريف:
الانشغال بمنحوتات الفنان عباس جابر، ليست من باب الصدفة التي تخلق الدهشة لدى المتلقي البصري، بقدر ما تأسست منذ أكثر من عشرة أعوام. يوم تم افتتاح دار القصة العراقية في ميسان، وكنت مساهماً فعلياً في المشروع، حيث كانت من ضمن موجودات القاعة مجموعة منحوتات طينية بأحجام صغيرة نسبياً، أقول صغيرة للتأكيد على صعوبة التنفيذ وفق هذا الحجم، فهي تقترب من الأشكال البدائية عند الإنسان الأول، وامتدادها عبر التاريخ، حيث كان المسلمون أثناء أداء الصلاة يضعون أكفهم فوّق بعض، وحصراً قرب المنتصف من الجسم، لإخفاء أصنام آلهتهم الصغيرة التي يحملونها. كانت النماذج في القاعة صغيرة كما ذكرنا، وبعد السؤال عنها، عرفنا أنها للفنان الفطري عباس جابر، الذي يومها كن قد تجاوز الخامسة عشرة من العمر بقليل. وقتها أسّرتني الدهشة مما رأيت.

كما عاودت الدهشة تأثيرها تارة أُخرى بعد مضي كل هذه السنين. فقد وجدت في نماذجه تقنية جديدة، وإصرارا على التحكم في أفكاره. وهنا لا أقول إنه احتكم إلى المعرفة المكتسبة، بقدر ما حافظ على عفويته في طرح الأفكار، ولكن بجدارة فنية أكثر تقنية من جهة، وتعميق رؤاه من جهة أخرى. وطبيعي (حسب علماء النفس وعلماء فسلجة الدماغ) إن التطوّر يكون لاحقاً في سياق المعنى، بمعنى تتطوّر البنية الفكرية وتتخلق أسسها وأنساقها، لأنها ترتبط أساساً بتطور فسلجة الدماغ (نضج العقل) وهذا ما تحقق على مجسمات الفنان وتنفيذه لنماذجه. فقد اشترط المعنى أسساً جديدة، وذلك بتعميق أكثر لتحوّل العفوية الفطرية إلى العفوية المُدرِكة. بمعنى أنه بعد أن كان الفنان يخلق نماذجه بتأثير خفي جيني، استجابة لشرط ذاتي بدائي، غدا يعي ما هو عازم على خلقه. فقد أدرك دوافع الخلق هذه بقوله مثلاً: «إن يدي تحاور الطين بوصفه كائناً حياً، يستمع ويتأثر بالأشياء. فتخرج من يدي كائنات بهيئة إنسان.. إنها على الأصح محاولات للتعبير عن كوميديا الخوف و/ فوبيا الحياة اليومية/ أردت أن أطلق تلك الصرخة الخرساء المخنوقة التي ترفض ما يجري من محاولات تفتيت وجود المكوّنات الطبيعية ضد العنف والفتنة والموت المجاني، بل إنها صرخة استغاثة موّجهة لكل المنصفين في العالم لإيقاف مسلسل النزيف الدموي. إن في أعمالي مغامرة للتعبير من خلال النحت على نواة التمر والرز والعدس ونوى النبق، لتحقيق مفردات تتشاكل مع ما نعيشه ونلمسه. لذا أجد إن هذه الأعمال بمجملها ما هي إلا (صرخة تنزع من جرح عراقي نازف لن ينتهي» (حوار ماجد البلداوي، مجلة الشبكة العراقية/ العدد 232 في 20/10/2014).

ومن كل هذا يمكننا التحقق من مجالات الفنان الفكرية، باعتبارها أيقونات لازمة للفن، فهو لم يكتف بجمالية أشكاله، وإنما أحاط هذه الجمالية بمستويات من البنى الفكرية، التي عكست رؤيته للواقع، ليس الآن فقط، بل إنه ثابر على هذا المستوى من الإنتاج منذ صباه، ودرج على تحميل أشكاله حالات وظواهر سيكولوجية معقدة، من حيث تبئيراتها التي تجتمع في بؤرة واحدة تنم عن رؤى تنطوي على خلاصة جدلية لواقع نشأ عليه الفنان. فهو راء ومراقب لما يحيطه، وملَكته الذاتية قادته باتجاه تجسيد بنية الصراع النفسي في أشد تأزمه. فرؤيته لما هو مرئي ومحسوس قاده إلى تبني الصورة التي يوحي بها حراك الواقع من حروب وقتل وتهجير، وموّت مجاني جماعي. لذا نجده يستصرخ نموذجه ويُظهره على حال تُثير التساؤل وتستحث الجدلية في ما هو مرئي من بنى جمالية وربطها بالواقع الجاري. من هذا يجد المرء نفسه أمام صدق فني، ومستوى من التقنية، مجتمعة مع الحِرفة في نحت الأشكال وصياغتها على نمط يوحي بالاحتجاج؛ بما يوحي أيضاً بالموّقف المبدئي الجمالي. فالفنان ملتزم بقضية كبرى مفرداتها (الحرية، حرية الرأي، أحقية الوجود، الفردي والجمعي، استقرار الوقع) وغير ذلك من مشاغل الحياة الاجتماعية.
إن التفاصيل الدقيقة التي تُلم منحوتته؛ تُشير إلى مستويات متباينة وذات عطاء معرفي عام وفكري خاص، كما أنها تمنح نوعا من ديالكتيك بنيته الفكرية، بسبب تداوله المحاور التي يتوالد من رحمها مجموع الأفكار. فالحالات الإنسانية التي عليها نماذجه لا توحي وتُظهر بشاعة الحياة، بقدر ما تستنهض الذوات التي طالتها أسباب مثل هذا التدهور والانتكاس، فهي بذلك كاشفة وعاكسة لما هو غير معبّر عنه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى محققة لتصعيد فني تجاوز بكثير عفوية التنفيذ.

*كاتب عراق








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي