نساء في الشمس

2024-10-15


منى كريم*

 

اختفوا من بيننا
من ثقب صغير
في كيس مهترئ
تناثروا ببطء
قبل الحرب
عاشوا معنا
لا أذكر وجه جارتنا
لكني أسمع صوتها
تجلس وجدتي
على ضفتي الحائط
تتحادثان بلسانين مختلفين
واحدة تنفي الدود عن الأرز
والأخرى تختطف صغار البقدونس
خلال الحرب
سقطت كل الحيطان
الطوب والتقاليد
تداخلت بيوتنا
النساء والأطفال في ضفة
والرجال في ضفة أخرى
صارت لدجاجاتهم حديقة
نتلاحق فيها
لم تكترث جدتي
بإخفاء نقوش وجهها
أو بحراسة بناتها
عن أبنائهم
بعد الحرب
استسلم الحي أمام رحيلهم
كانت كلمة الدولة قضاءً وقدراً
اضطروا إلى بيع أعضاء بيتهم
لم نجرؤ على قبول ما تبقى منه
ربما خفنا التذكير الدائم
على غيابهم
أو من حظهم العاثر
يأكل بيوتنا من الداخل
سمحت جدتي لنفسها
أن تجتاز الحائط لتودع صديقتها
اشترت لها أقمشة جميلة
أرادت تحويل حقيقة الفقد
إلى كذبة بداية جديدة
سعدت الجارة بهديتها
استعرضت كل قطعة
تمددها كعلم في الهواء
– وبعدما أبدت إعجابها
بكل منها، طوتها بلطف
واحدة فوق الأخرى –
نزلت دموعها كمطر متأخر
أغمضت جدتي عينيها
تحبس سيل مشاعرها
ذكريات من رحلوا ويرحلون
انتفض جسدها القصير المدور
ضد حفيظتها
خرجت كلمات مبتورة منها
لكن صوتها المرتعش
بات طيناً تحت مطر الجارة
لم تعد لجدتي صديقة
لم تحاول استبدالها
لم تخرج إلى باحة البيت
لتجلس قرب الحائط
ظلت تراكم قطع الأقمشة
بين المواسم
تطويها بلطف
بانتظار زائر غير متوقع.

نساء في الشمس ٢

في الأيام السابقة لرحيلهم
ادعَّوا أن كل شيء بخير
انشغلوا بالتجهيزات
بشراء حاجياتهم المفضلة
التي لا وجود لها
في عراق محاصر
مروا على بيوت كثيرة
يستلمون أمانات
لآخرين سبقوهم على الطريق
قضوا ساعات يصفّون تاريخهم
يتخيلون ما الذي سيحتاجون إليه
في المستقبل البعيد
لاستدعاء وجوه الماضي
ما الذي قد ينفع
في تحنيط حياة هجَّرتهم
ركضت أمي خلف كل منهم
تحاول رفع رصيد ذكرياتها
تذكرهم بالأيام الحلوة
قبل مجيء المُرّة
الكلام الذي لم تقله
القبل التي لم تعرف كيف تسِمها
على خدودهم بلا سياق
أنكروا حقيقة ما يجري
وبعدما امتلأت الحقائب وتراكمت
أخذت أمي خالاتنا إلى المصور
ليقفن من فوقي وإخوتي
كآلهة سومرية
على وشك أن يتم تفكيكها
وشحنها إلى متحف أوروبي
انتهت الليلة الأخيرة
بطيئة وثقيلة
تسامروا في باحة البيت
كمن يؤجل الغرق
وفي الصباح الأخير
رفعوا الحقائب فوق سياراتهم
لم يودعوا بيتهم
بعدما اجتثوا منه ما أمكن
كما اجتثثنا جسد أمي
من أحضانهم الباكية
لم يبتسم أحد في الصورة
ابتسم الأطفال وحدهم
لأنهم لم يعرفوا بعد
حجم الخسارة.


*كاتبة كويتية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي