
طوال يوم، بين ساعات مساء أول أمس وساعات بعد الظهر، سجل أمس انخفاض في قوة النيران على جانبي الحدود بين إسرائيل ولبنان. الهدنة الصغيرة قطعت بهجوم جوي آخر لإسرائيل في حي الضاحية في بيروت، الذي قتل فيه قائد رفيع في حزب الله. ترتبط الأحداث على الأرض بالتطورات الأخرى بشكل وثيق: الاقتراح الأمريكي – الفرنسي لوقف إطلاق النار الذي عرض أمس؛ وسفر نتنياهو إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك؛ ونوبات غضب شركائه في الائتلاف من اليمين المتطرف بعد إثارة احتمالية حدوث هدنة.
بعد حوالي سنة على حرب استنزاف باهظة الثمن ومؤلمة على الحدود الشمالية، التهمت أحداث الأيام العشرة في لبنان كل الأوراق. منذ البدء بالإطلاق نحو إسرائيل في 8 تشرين الأول الماضي، أملى حزب الله العديد من الخطوات على الجبهة الشمالية. بعد إطلاق النار تجاه المستوطنات قرب الحدود، فرض حزب الله إخلاء السكان، والإبقاء على قوات الجيش الإسرائيلي في الشمال، وساهم بذلك بشكل كبير في نضال حماس في قطاع غزة. إسرائيل في الحقيقة قتلت نحو 500 من نشطائه واغتالت شخصيات رفيعة وأفرغت قرى في جنوب لبنان من سكانها، لكنها لم تنجح في إجبار حزب الله على وقف النار. كلما تعاظم القصف، يصمم الحزب تكثيف إطلاق النار وإطالة مداه حتى غطى معظم منطقة الجليل وهضبة الجولان. وتعهد حسن نصر الله بمواصلة الإطلاق ما دامت إسرائيل تحارب في غزة.
الأحداث التي وقعت منذ 17 أيلول فصاعداً غيرت الصورة بدرجة معينة. هجمات البيجرات وأجهزة الاتصال التي نسبت لإسرائيل، وتصفية إبراهيم عقيل، والجرح (المقدر) لعلي كركي، وسلسلة التفجيرات الشديدة التي دمر فيها جزء كبير من قدرة حزب الله على إطلاق الصواريخ، للمدى القصير والمتوسط، كل ذلك غير ميزان القوة وأثر على حسابات حسن نصر الله. وفي هذه الأثناء، كان رد حزب الله حذراً جداً. وينعكس هذا الرد في قرار إطلاق صاروخ باليستي وحيد على مشارف تل أبيب، بعد أن قتل أكثر من 700 لبناني في الهجمات منذ الأسبوع الماضي وأصيب الآلاف (معظم القتلى، كما يبدو، من رجال حزب الله، رغم وجود خسائر كثيرة في أوساط المدنيين). أما الصاروخ الذي وجه إلى مقر قيادة الموساد حسب أقوال حزب الله، فقد تم اعتراضه.
يستعد جهاز الأمن الإسرائيلي لسيناريوهات رد أكثر شدة. ولكن يبدو أنه ليس نتيجة المس بسلسلة قيادة حزب الله. فحسن نصر الله حذر من الانزلاق إلى معركة شاملة. إطلاق حزب الله لم يوجه حتى الآن إلى مراكز المدن الكبيرة. يبدو أنه يقول لنفسه بأنه مع امتناعه عن قتل جماعي للمدنيين الإسرائيليين، فلن تضرب إسرائيل الضاحية، الحي الشيعي في جنوب بيروت. في العام 2006 صادق الكركي على إطلاق الصواريخ نحو حيفا، التي قتل فيها مدنيون. وردت إسرائيل بعمليات قصف أخرى للضاحية. وبعد سنتين، عرض غادي آيزنكوت، الذي كان في حينه قائد المنطقة الشمالية، عقيدة الضاحية التي هددت بتدمير معاقل حزب الله هناك. ربما لا يريد حسن نصر الله تكرار الخطأ.
ضبط النفس النسبي الذي أظهره رئيس حزب الله حتى الآن أثار مفاجأة لدى الجانب الإسرائيلي. ربما يدل ذلك على قوة الضربات التي تكبدها حزب الله، وخوف أسياده في طهران من أن تتسبب زيادة قوة النيران في فقدان لمشروعهم الكبير نهائياً – ترسانة السلاح الضخمة التي أقاموها لحزب الله بعد حرب لبنان الثانية، التي كان هدفها الأساسي ردع إسرائيل عن مهاجمة المنشآت النووية في إيران. وإسرائيل حتى الآن لا تضرب بكل القوة. بعد الهجوم الكبير في بداية الأسبوع، قلص سلاح الجو نطاق الهجمات. ومع ازدياد احتمالية حدوث عملية برية في جنوب لبنان كما تشير الاستوديوهات، يجدر التذكير بأنه لم يتجند حتى الآن سوى لواءي احتياط فقط.
رغم الفروق الواضحة، ثمة خطوط تشابه بين التخبطات الآن مع تخبطات الأيام الأولى لحرب 2006. في حينه، هاجمت إسرائيل صواريخ المدى المتوسط التي أخفاها حزب الله في بيوت لبنان (عملية “الوزن النوعي”) رداً على اختطاف جنديي الاحتياط. بعد بضعة أيام من القتال، كانوا مترددين فيما يتعلق باستخدام خطة أخرى، “كاسرة الجليد”، كان اسمها. بعض الجنرالات، من بينهم آيزنكوت وموشيه كابلنسكي، أوصوا رئيس الحكومة ورئيس الأركان دان حلوتس بالتوجه إلى هجوم جوي شديد وقصير، وبعده إعطاء فرصة لوقف إطلاق النار، الذي ستدخل القوات في غيابه إلى عملية برية في جنوب لبنان. فعلياً، لم تعمل حكومة أولمرت بحزم على الحل السياسي، وفضل حزب الله مواصلة القتال، وتدحرجت العملية إلى شهر آخر من القتال البري المتردد، بدون حسم، إلى أن تدخلت الدول العظمى وفرضت وقف إطلاق النار.
في هذه المرة، حجم الضرر والمصابين من حزب الله كبير بدرجة لا تقدر. وفي المعادلة متغير آخر وهو أن المراسلين الذين يتابعون ما تفعله عائلة نتنياهو ينسبون إليه وزناً كبيراً، مطالبة زوجة رئيس الحكومة بإطالة وجود الزوجين في نيويورك خلال نهاية الأسبوع، وليقفز المدنيون والجنود. للزوجين نتنياهو مصلحة شخصية في تهدئة النفوس ليومين آخرين على الأقل، كما أن الاستقبال الذي سيحظى به في الأمم المتحدة مرهون بقوة الهجمات. صباح أمس، نشرت إحاطات متناقضة بدرجة ما في وسائل الإعلام؛ في البداية تم اقتباس مصدر في مكتب رئيس الحكومة، أكد “يوجد ضوء أخضر لوقف النار لغرض المفاوضات”. وبعد ساعة تقريباً، نفى المكتب النبأ الذي نشرته شبكة “سكاي نيوز” حول التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وقال إن “رئيس الحكومة لم يرد على العرض الأمريكي – الفرنسي”. إلى أن هبط نتنياهو في نيويورك، كان قد تم استكمال الانعطافة الكاملة. تنصل رئيس الحكومة من التفاهمات الأولية التي تم التوصل إليها مع الادارة الأمريكية، وتساوق مع المتطرفين في حكومته: سيستمر الهجوم في لبنان حتى إشعار آخر، على الأقل. يمكن تخيل قوة غضب الإدارة الأمريكية من هذه الخدعة الأخيرة.
هناك مزيد من الاعتبارات ثقيلة الوزن التي تشغل نتنياهو، هجوم جوي جديد في الشمال يستهلك ذخيرة دقيقة، لأننا نحتاج في مرات كثيرة إلى ضرب منصة إطلاق وصاروخ واحد، تكون مخبأة في بيت. الاعتماد على الولايات المتحدة مرتفع جداً لإقناع الإدارة الأمريكية في تسريع توفير ذخيرة أخرى لإظهار نية حسنة وإثبات أن إسرائيل ليست العائق أمام الحل الدبلوماسي.
بين علامات استفهام
تتم مهمة الوساطة الأمريكية بصورة غير مباشرة من خلال الفرنسيين ورئيس البرلمان اللبناني نبيه بري، الذي هو أيضاً رئيس حركة أمل الشيعية. يحاول الأمريكيون تقديم سلم لحسن نصر الله للنزول عن شجرة الالتزام بمواصلة القتال إلى جانب حماس، الذي تبين أنه قد أخطأ فيه. يبدو أنهم يأملون بأن الهدنة لثلاثة أسابيع لغاية التفاوض قد تحلي له حبة الدواء المرة.
الرسائل الأولى التي استقبلت من حسن نصر الله أول أمس كانت سلبية، ربما بسبب السؤال كيف يمكن للطرفين العمل في فترة وقف إطلاق النار، كجزء من الدفاع عن النفس؟ الخيار كما يراه حزب الله ليس بين وقف إطلاق النار وحرب شاملة وهزيمة، ربما سيختار مواصلة إدارة حرب استنزاف، التي يحافظ في إطارها على مدى نيران واسع ويحاول تشويش الحياة شمالي البلاد لفترة طويلة، بدرجة أبعد بكثير من المناطق التي هاجمها بشكل ثابت حتى الأسبوع الماضي.
تثور حول وقف إطلاق النار، إذا ما تم التوصل إليه، علامات استفهام أخرى؛ كيف ستمنع إسرائيل حزب الله من كسب الوقت لينهض ويرمم سلسلة القيادة والسيطرة، وربما إعادة تسلحه؟ ماذا ستفعل إذا استأنف حزب الله قوافل السلاح المهربة من سوريا إلى لبنان؟ وحتى إذا انزلقت الأسابيع الثلاثة وتحولت إلى اتفاق للمدى الطويل، كيف يضمنون أن يؤدي هذا الاتفاق إلى هدوء طويل في الشمال وعودة السكان؟
رؤساء المجالس الإقليمية على طول الحدود في الجليل، يظهرون قلقاً من جانبين في انتشار حزب الله: “قرى خشبة القفز والبنى التحت أرضية”، والادعاء أن حزب الله ينتشر في قرى شيعية قرب الجدار بشكل يسمح لرجال قوة الرضوان بالانطلاق سريعاً لاقتحام أراضي إسرائيل، مع استخدام البنى التحتية في الطرف اللبناني. في الجيش الإسرائيلي، وبالأساس في قيادة المنطقة الشمالية، ضباط يعتقدون أن احتلال المنطقة حتى نهر الليطاني وإعادة إقامة المنطقة الأمنية التي تركت في أيار 2000، هو شرط الحد الأدنى لوضع نهاية للحرب. ويحذر آخرون من تورط مزدوج، في البداية في معارك وبعد ذلك الاحتفاظ بالأرض، ويذكرون أن إقامة شبكة مواقع بتكلفة اقتصادية وعسكرية باهظة لن تمنع إطلاق حاد المسار لصواريخ من فوق المواقع نحو المستوطنات القريبة من الجدار.
جنرال الاحتياط يعقوب عميدرور هو أحد المستشارين المؤثرين الآن في حاشية نتنياهو (اثنان آخران هما العميد احتياط آفي إيتام ويعقوب ميغل (ليس لهؤلاء الثلاثة منصب رسمي). يمكن معرفة نوايا رئيس الحكومة من بعض ظهورات عميدرور مؤخراً. يستعد نتنياهو لاحتمالية اندلاع حرب طويلة في غزة ولبنان أيضاً. ويضع لبنان الآن في المقام الأول؛ لأن المخاطرة التي يتعرض لها من حماس في غزة تقلصت جداً (عميدرور لا يشرح لماذا لم يتوصل إلى هذا الاستنتاج قبل بضعة أشهر). بخصوص عملية برية، فإنها غير مطروحة كموضوع لا يمكن التنازل عنه. وحسب قوله، إذا أبعد اقتراح الوساطة رجال حزب الله إلى ما وراء الليطاني، فلا حاجة لإرسال الجنود إلى داخل لبنان. وفي ظل غياب ذلك، لا مناص من فعل ذلك.
رغم عمليات الجيش والاستخبارات المثيرة للانفعال، ثار شك في الأيام الأخيرة بأننا نشهد لعبة “بوكر” شرق أوسطية واسعة. لا تبدو عملية اصطدام واسعة على الأرض مؤكدة حتى الآن. وما زالت إسرائيل تحاول التوصل إلى إنجازات في الحرب بدون استخدام القوة البرية.
هآرتس 27/9/2024