حاوره: عبد اللطيف الوراري
حين زرتُ القاهرة في سبتمبر/أيلول 2016، وكانت الحاضرة العظيمة ما تزال تلتقط أنفاسها بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 وتداعيتها، وقفت على حقيقة انتماء المثقفين في مصر إلى وضع بلادهم بالكلمة والموقف. ظلّوا يُشخّصون صور هذا الوضع ويستلهمون منه مواضيع قصصهم وأشعارهم وأطروحاتهم الفكرية. صحيح أنّ موجات الحيرة والقلق والسخط والشك خيّمت على ورشات عملهم، لكن متى كان عمل المثقف رديف الطمأنينة ومجاراة النغمة المواكبة، بل كان الأمر مدعاة للسؤال وتجديد الفكر. كان صبحي موسى من جملة هؤلاء الطليعيين. التقيت به في زهرة البستان، شابّا حييّا يفترُّ عن سن ضاحكة، ويشع من عينيه حماس واثق. كتب صبحي الشعر في بدايات عمره الأدبي، وتحوّل عنه إلى الرواية التي نقلها إلى مسرح التاريخ، مستفيدا من المتخيل الشعري ومن البناء المعماري الجامع الذي تعلمه في الريف من أجداده، أثناء هندسة الحقول، أو في بناء بيوتهم الطينية. مثلما أفاد من تخصصه في علم الاجتماع، الذي فتح عينيه على أسئلة الثقافة داخل حركة المجتمع من منظور أكثر جريانا وتعقيدا.
بمناسبة صدور كتابك «تحولات الثقافة في مصر» ماذا بقي- في نظرك- من «مستقبل الثقافة في مصر» للعميد طه حسين؟
كان طه حسين غير راضٍ عما وصل إليه الحال بعد ثورة يوليو/تموز، حتى إنه في لقاء له – قبل رحيله بنحو عام تقريبا – قال إنّ الوضع أصبح سيئا؛ علما بأن طه حسين لم يكن راضيا كذلك عما كان عليه الوضع في المرحلة الملكية، ولا حتى وهو وزير المعارف في بداية الخمسينيات؛ لأنه كان يريد أن يجعل مجانية التعليم تشمل التعليم الجامعي، لكن الملك رفض. وقد تحقق هذا الأمر في ما بعد مع ثورة يوليو، لكن مستوى جودة التعليم كان أقل مما كان عليه في السابق، وكان المستوى الثقافي أقل، وحتى مستوى الكتاب الذين أتوا بعد يوليو كانوا أقل ممن كانوا في نهايات العصر الملكي.
ولنا ان نعرف أن «مستقبل الثقافة في مصر» كان معنيا بالتعليم بالدرجة الأولى، فالكتاب كان من المفترض أن يكون تقريرا عن مؤتمر علمي حضره طه حسين في أوروبا عن التعليم، وطلب منه وزير المعارف وقتها أن يقدم له تقريرا عن المؤتمر وما دار فيه، لكن العميد فكّر بأن التقرير سيقرؤه مسؤول أو اثنان، وقد يأخذان بما فيه، أو لا يتحمسان له؛ ومن ثم قرر أن يجعل منه كتابا ينشره على الجميع، بحيث يقرؤه الكل ويستفيد منه من يستفيد، ويقوم بتحقيق ما فيه متى أتيحت له الفرصة. وربما هذا ما دعاني إلى أن أكتب كتابي «تحولات الثقافة في مصر» راصدا فيه بدايات فكرة الثقافة مع الدولة المصرية الحديثة منذ محمد علي حتى وقتنا الراهن، والخطط التي تعاملت بها الأنظمة التي مرت على الدولة المصرية، وكيف جعلت من الثقافة تعبيرا عن توجهها في هذه المرحلة، وكانت أشهر خطتين للثقافة هما: خطة ثروت عكاشة في الستينيات، التي خرجت فيها مشاعل التنوير والمعرفة من المدن إلى القرى والريف، وخطة فاروق حسني في التسعينيات والعقد الأول من الألفية الثالثة، التي جمع فيها محركي العمل والفكر الثقافي من مراكز نشاطهم إلى جدران المؤسسة الرسمية، ومن ثم أدخلهم في ما عرف بـ»حظيرة الدولة» ما ترك المجال مفتوحا في الشارع للفكر الراديكالي والتقليدي، كي يعمل على أشده، ويصل إلى الحكم بمجرد سقوط نظام حسني مبارك.
بالطبع، هناك الكثير مما وضعه طه حسين في كتابه عن مستقبل الثقافة ما زال موجودا، لأن الحياة نفسها تطورت وأقرت ما كان يحلم به طه حسين، بل أضافت إليه المزيد والكثير، فلم يكن في زمنه إنترنت ولا هواتف محمولة ولا ستالايت، ولم تكن هناك جامعات خاصة، وكان التعليم الخاص محدودا وضئيلا، وزخم الحياة الثقافية لم يكن بكل هذا الاتساع، لكننا وصلنا إلى مرحلة السيولة، حيث نعيش طوفانا من كل الأمور والظواهر. يكفي أن ينجح عمل واحد كي يتم استنساخه والكتابة على منواله إلى أن يُستهلك ويموت، ولم تكن الجوائز موجودة في زمن طه حسين بهذه القوة ولا الكثرة، وفي نهايات أيامه كانت الدولة قوية، وهي التي تمنح وتعطي، لكن الآن لم يعد دور الدولة يتجاوز فكرة الحارس أو الشرطي، أو المنسق في أفضل الأحوال. ومن ثم فإننا بحاجة إلى فكرة أو خطة جديدة كي نواجه من خلالها قدر التحديات المهول الذي أمامنا، ونعرف إلى أين ستتجه خطانا في السنوات المقبلة. هذه الحاجة هي ما عبرتُ عنه في «تحولات الثقافة في مصر».
شكلت الثقافة المصرية أحد المراكز القوية داخل الفضاء العربي، لكننا شهدنا في الآونة الأخيرة تراجع مركزيّتها. ما هي أسباب هذا التراجع؟ وهل تتفق مع من يقول إنّ ثمة مركزيات عربية جديدة حلت محلها؟
فكرة المركز لا يحددها قدر الأموال والدعاية، لكن يحددها التاريخ والجغرافيا وعدد البشر. قد يتاح لدولة ما قدرا كبيرا من المال في زمن ما، ويمكنها أن تمول أشياء كثيرة، وتلفت أنظار العالم أجمع إليها، لكنها تظل مجرد دولة، وليست مركزا. فالمركز الثقافي له أبعاد تاريخية وثقافية، يسهم فيها الموقع الجغرافي والحضور البشري، ويظل هذا المركز مركزا مدى التاريخ لهذه الأسباب، حتى إن تم تهميشه لبعض الوقت، أو ظهرت مراكز بديلة عنه لفترة ما. وما يحدث في المنطقة العربية هو ما سميته بـ»ثورة الأطراف على المركز» نظرا لما تتمتع به من قوة مالية، وانفتاح على الغرب الذي تتقاطع معه في سياساته الراهنة. لكن لا موقعها ولا تاريخها ولا ثقلها البشري يؤهلها لأن تكون مركزا، على نقيض أماكن أخرى مثل إيران وتركيا وسوريا والمغرب والعراق. أما أسباب التراجع فهي كثيرة، في مقدمتها العوز المالي الذي سقطت فيه الدولة المصرية، ما جعل الأطراف تملي شروطها، وتسعى لتوسعة نفوذها على حساب المركز، ومصر والمصريون يعلمون ذلك، ويوقنون بأنها فترة اضمحلال في تاريخهم، وأنها ستمر مثلما مرّ الكثير من فترات الاضمحلال السابقة، وعادت مصر من جديد مركزا قويا له حدوده ومناطق نفوذه المعروفة.
انتقلت من الشعر إلى الرواية. ما الذي أفادك به الشعر لبناء معمارك السردي؟
الشعر يعلمك الخيال والتجريد والبحث عن المناطق الأكثر إنسانية للتعامل معها. يعلمنا أيضا محبة اللغة، وبساطتها، وأن لكل قصيدة لغتها وحيلها الخاصة. وقصيدة النثر والقصة القصيرة نوعان متجاوران وربما متداخلان للغاية، فكلاهما يعمل على اللغة والحبكة والسرد، ربما تكون المفارقة في الشعر أوضح، والحبكة في القصة أكبر، وكلاهما يؤديان في النهاية إلى كتابة النص الروائي بعوالمه الأوسع والأضخم والأكبر، وبنائه المعماري العظيم. قد لا تكون للشعر علاقة بالبناء المعماري في النص الروائي، فهذا عمل فلسفي كبير. قد تكون لخبرات الحياة أهمية أكبر في إنتاجه، فضلا عن موروثات الأهل والأجداد. فأنا ابن جماعة ريفية، تعلمت في صغري دون قصد مني، هندسة الحقول وريها، وشاركت أهلي في بناء بيوتهم الريفية التي كانت تشبه القلاع، ورأيت فلسفتهم في بناء النوافذ المشرعة، وحتى في وضع الدفائن الخشبية داخل الجدران، وتعلمت كيف يربطون بين الحوائط وبعضها، وكيف يضبطون منسوب المياه في الأرض، وكيف يصنعون تحويلة الري، دون أن يفسدوا الزرع؛ هذه الخبرات هي التي ساعدتني كي أكون صانعا أو بنّاء كبيرا في العمل الروائي.
داخل رواياتك ثمة اهتمام بالتاريخ وهوس به، هل تعود إليه لفهم الماضي ومسببات الإخفاق الذي حصل فيه؟ أم تتخذه ذريعة لنقد الحاضر وتأويل سردياته التي استبدلت سلطة بأخرى؟
في أي عمل تاريخي أبدأ دائما من الراهن، في «الموريسكي الأخير» بدأت من ميدان التحرير وثورة يناير، في «أساطير رجل الثلاثاء» بدأت من محطة المترو التي ينتظر فيها ابن لادن صديقه وأستاذه أبا سعيد، وفي «صلاة خاصة» بدأت من دميانة التي عملت محققة في أحد الأديرة، وحتى في «صمت الكهنة» بدأت من مسعد أبو النور وهو يكتب ذكرياته عما عاشه بين عالمي الكهنة القدامى وعالمه الحديث الخاص. ومن ثم فالتاريخ بالنسبة لي هو العقل الباطن للأمة، وحين تصاب بمرض، أو أعراض مرض غريب، فعلينا أن نستعيد تاريخها لنحلل ما جرى فيه، فإذا عرفنا أسباب المرض تمكنا من علاجه. ومن ثم فكاتب التاريخ لا يبحث عن مجرد حكاية يرويها، لكنه يبحث عن علة ما نعيشه. وكي أؤكد على هذه الفكرة لديّ، فقد كنت أبدأ دائما من عرض المرض، باحثا مع القارئ في العقل الباطن للأمة عما حدث في الماضي وأوصلنا إلى ما نحن عليه الآن.
كيف تنظر إلى ما يجري في غزة وفي أرض فلسطين ككل؟ وهل استلهمت شيئا من الأحداث التي أعقبت «طوفان الأقصى»؟
ما يجري في غزة وفي فلسطين ككل تحدث عنه في بدايات القرن الماضي كاتب لبناني اسمه نجيب عازوري (1870- 1916) ولم تكن القضية الفلسطينية قد أصبحت قضية بعد، ولم تكن فلسطين قد أصبحت الجرح الدامي لكل الشرفاء العرب. قال عازوري في كتابه «يقظة الأمة العربية» إن هناك أمرين يتخلقان في منطقة الشام، سوف يتصادمان ويتصارعان معا، ولا بد لأحدهما أن ينتصر، وسوف يتوقف عليهما مصير العالم، هما الصهيونية والقومية العربية. وكان الأمر في بدايته ومبكرا جدا، وكان اليهود يريدون من السلطان عبد الحميد أن يسمح لهم بالهجرة إلى الأرض الفلسطينية بعد المؤتمر الصهيوني الأول في نهاية القرن التاسع عشر. ومن ثم سيظل هذا الصراع صراعا أبديا بين القومية العربية والصهيونية، يخونه من يخونه، وينتصر له من ينتصر، لكن لا بد أن ينتهي بفوز طرف على الآخر، وسوف يتحدد مصير العالم عليه.
لكن يمكننا أن نقول بلغة أخرى أن ما يحدث في غزة هو نتيجة لصراع الأقطاب الكبرى في العالم، حيث أمريكا والغرب في جانب، وروسيا والصين في جانب آخر، ولكل منهما حلفاؤه وعملاؤه. ويتجلى عنف هذا الصراع شبه المكتوم بين الطرفين في مناطق ما يمكن تسميته بالأطراف الرخوة، فكل المناطق الضعيفة ستظهر عليها آثار الصراع. ويبدو أن المنطقة العربية كانت من أضعف هذه المناطق، ومن ثم ظهرت تجليات هذا الصراع في غزة ولبنان والسودان واليمن وليبيا والصومال. كل هذه الأرض رخوة تحولت إلى مسرح للصراع بين تلك الأقطاب الكبيرة. لكن لنا كذلك أن نتأمل المناظرة التي جرت بين ترامب وكامالا هاريس، حيث أظهر ترامب ما يختبئ في العقل الباطن لدى الغرب، فقد قال إن هاريس تكره إسرائيل، ولو فازت فإن إسرائيل ستزول في أقل من عامين.
استخدم مصطلح «تزول» ولم يستخدم كلمة اجتياح أو دخول تل أبيب، بينما حين تحدثت هاريس عن الحرب بين روسيا وأوكرانيا، قالت إن ترامب إذا فاز فإن بوتين سيدخل كييف، ولم تقل إن أوكرانيا ستزول، ما يعني أن العقلية الأوروبية والغربية مؤمنة تمام الإيمان بأنهم إذا توقفوا عن دعم إسرائيل فإنها إلى زوال، لأنها بلا جذور. أما عن الكتابة فمن الصعب الآن استلهام شيء مما جرى بعد «طوفان الأقصى» لأننا على الأقل في مرحلة نسعى فيها لأن نستوعب ما الذي جرى بالضبط، فلدينا عشرات الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات كي تكتمل الصورة، من بينها لماذا جرى ما جرى؟ وما الذي استفادته القضية مما جرى؟ ولماذا الآن؟ وهل كان الغرب شريكا في ما حدث؟ وهل تواطأت إسرائيل عليه؟ وهل موقف «حماس» كان نابعا من القضية ومستقبلها؟ عشرات الأسئلة التي لا يمكن الكتابة في ظل اجتياحها للذهن، ولا يمكن الكتابة في ظل سخونة الأحداث. لكن القضية الفلسطينية كانت حاضرة لديّ في العديد من الأعمال، ففي «أساطير رجل الثلاثاء» تضافر ظهور جماعة الإخوان المسلمين مع ظهور إسرائيل، وفي «الموريسكي الأخير» كانت محنة الموريسكيين هي محنة الفلسطينيين، وقلت إن الصهيونية العالمية تريد غزة وتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وفي «صلاة خاصة» رفض الأنبا شنودة ذهاب المسيحيين إلى الحج، ودخل في صراع مع السادات على هذا الأمر، وفي «حمامة بيضاء» حمل البطل رسالة من المثقفين بعد اجتياح «جنين» إلى السفير الإسرائيلي، فما كان من أمن السفارة إلا أن ألقى به إلى خارج المبنى، فعاد سيرا على كورنيش النيل وهو يتذكر صوت محمود خليل الحصري يترنم بسورة يوسف، ليتحول بعدها في بيته إلى هيئة حمامة بيضاء ثم يختفي.