الياس خوري
فاجأنا جنود نتنياهو في بداية الأسبوع الفائت بسلاح بدأ استخدامه في القرن الثالث قبل الميلاد، إنه المنجنيق. فتم تصوير جندي إسرائيلي يقصف بالمنجنيق من خلف جدار على جنوب لبنان.
والمنجنيق آلة كانت تستعمل لإطلاق القذائف لمسافة كبيرة من دون مساعدة البارود أو أي مادة دافعة لإخفاء مكان إطلاقها.
لكن رئيس الحكومة الإسرائيلية «انجلق» علينا بهوسه بإعادتنا إلى القرون الوسطى، فذهب هو إلى القرون الوسطى كي يحرق بلادنا بجميع الآلات المتاحة.
هذه هي اللعبة الإسرائيلية مع لبنان منذ البداية.
ما معنى إعادتنا إلى القرون الوسطى ونحن نعيش في اللادولة؟
معناه أنه لا يملك سلاحاً ضدنا سوى النار، والنار لا تكفي في الحروب، فهدف الحرب يكون في العادة إخضاع العدو، أما إذا كان العدو بلا بنى سياسية فإن الهدف من الحرب ينتفي.
وفي سجال جرى في صحيفة هآرتس حول تدمير البنى التحتية اللبنانية، برز رأي العميد الإسرائيلي السابق، غيورا آيلاند، الداعي إلى تدمير البنى التحتية للطاقة والمواصلات والإعلام، وجعل وسط بيروت كوسط غزة درساً لحزب الله لإنهاء الحرب.
ليفتتح المحلل الإسرائيلي تسيفي برئيل مقاله ساخراً بهذه العبارة: «عن أي بنى تحتية يتكلّم العميد؟».
لقد نجح اللبنانيون في تدمير جميع بناهم التحتية وحولوا بلادهم إلى صحراء تعج بالمولدات الكهربائية وخزانات توزيع الماء. ولم تعد البنى التحتية تعني شيئاً لهم، صارت بناهم التحتية بنى فوقية، كل إنسان يحمل بنيته على ظهره ويعيش.
هذا هو درس المقاومة في غزة ولبنان، وهو درس في لا جدوى تهديدنا بواقعنا.
أما الجواب فكان على شكل مسيّرة أطلق عليها السيد نصر الله اسم «الهدهد».
والهدهد لمن يعرف أو لا يعرف، هو طائر لعب دوراً أساسياً في علاقة سليمان الحكيم وبلقيس ملكة سبأ؛ إذ قام الهدهد بالتسلل إلى مملكتها وعاد بتقرير وافٍ وشافٍ عنها. كما ورد في سورة النمل: «فمكث غير بعيد، فقال أحطت بما لم تحط به، وجئتك من سبأ بنبأ عظيم»، أي أن الهدهد كان منذوراً لإحداث الأعجوبة.
وهذا ما قرره حزب الله عندما اختار «الهدهد» اسماً لعمليته الاستطلاعية فوق حيفا.
الإسرائيليون ذهبوا إلى القرون الوسطى مهددين فلم يصنعوا سوى أضحوكة بلا معنى، أما المقاومة في لبنان فذهبت إلى ما قبل القرون الوسطى لتصنع أعجوبتها عبر تقديم الصور والتسجيلات الواضحة والدقيقة لحيفا ومواقعها التي تستطيع أن تطالها في أي لحظة.
كيف نقارن الإنجازين؟
الاول، وهم إسرائيلي اختفى ولم يعد أحد ينظر إليه إلا بالسخرية. أما الثاني، الذي صنعته المقاومة، فلقد تحول إلى حدث كبير يتصدر المشهد.
الحدثان حصلا في عالم مضطرب، كأننا نعيش في هستيريا شاملة.
العالم يعيش الفوضى ولن يوقظه منها أحد، فانهيار الرأسمالية أتى مصاحباً لانهيار الأخلاق والقيم، بحيث صرنا أمام مجهول مخيف لا ندري كيف نخرج منه.
بالأمس، رأيت صورة مدهشة لجدة في قرية قضاء جزين، تقف أمام طاولة تصف عليها أقراص الكشك وأمامها تتساقط الغارات الإسرائيلية وهي لا تبالي.
هذه اللامبالاة هي الجواب الذي يقدمه أهل الأرض لمغتصبيها. فالأرض تمتلك أصحابها ويحرسها هدهد قادر على عبور المسافات وعلى تجاوز الخوف.
امرأة وهدهد، يلخصان المشهد اللبناني اليوم.
هذا المشهد الذي طرأ عليه الكثير من القصف والعنف في الجنوب اللبناني، لا يزال ثابت الأركان يلملم جراحة ويقف شامخاً أمام الغزاة.
أما حيفا، مدينة العشاق والبحر، فقد فتحت ذراعيها للهدهد الذي انتظرته طويلاً وأدخلته ميناءها وبحرها.
أما الهدهد فلا حدود عنده؛ لأنه يطير في الفضاء وفوق البحر فيصنع مداه كما يشاء، ويستعيد حكايته ويعيد روايتها انطلاقاً مما رأى.
لذا، صار التهديد الحقيقي هو تهديد نصر الله لإسرائيل بإعادتها إلى العصر الحجري بعدما أعاد الهدهد كتابة نصه بالعربية والإنجليزية والعبرية، موفراً عبء الترجمة.