فلسطينيّ السماء الأخيرة

2024-06-15

صبحي حديدي

ضمن أعمال إدوارد سعيد (1935-2003) العديدة عن فلسطين، ليس لافتاً لانتباه خاصّ أنّ كتابه “بعد السماء الأخيرة: حيوات فلسطينية”، في طبعة جامعة كولومبيا سنة 1999 التي تتصدرها مقدّمة خاصة من سعيد تعود اليوم إلى رواج في ضوء حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة ضدّ المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء وشيوخ قطاع غزّة كما في سائر فلسطين.

ذلك لأنّ الكتاب، الذي تضمن نصوصاً من سعيد وسلسلة صور فوتوغرافية من جان موهر المصوّر السويسري ألماني الأصل، يقرأ التاريخ البشري المادي القائم في الزمان والمكان لسلسلة نماذج فلسطينية، مبتدئاً من افتراض طريف لكنه عميق الدلالة: أدبيات كثيرة تصف فلسطين والفلسطينيين خاصة تلك التي سطرها الفلسطينيون أنفسهم، ومع ذلك فإن الفلسطيني يظل مجهولاً نسبياً، بمعنى أنه لا ينتمي إلى شعب بقدر تمثيله لذريعة حرب وصراع.

فكرة الكتاب بدأت من سياق خاصّ جمع سعيد مع موهر، الذي سبق له أن أصدر ألبومات تتناول الفنون والثورات والحروب وموجات النزوح والهجرة. ففي عام 1983 كان سعيد يتعاون مع منظمة الأمم المتحدة في تنظيم “المؤتمر الدولي حول قضية فلسطين”، وارتأى تكليف موهر بالتقاط صور تُعلّق في مدخل المؤتمر، وتعبّر عن حيوات الفلسطينيين في مختلف مناطق إقامتهم، داخل فلسطين وخارجها. المفاجأة غير الغريبة عن ظروف تمثيل الفلسطيني وقضيته خلال تلك الحقبة أنّ إدارة المؤتمر اشترطت لعرض الصور أن تخلو من أيّ تعليقات تشرحها؛ وبعد أخذ وردّ تمّ التوصل إلى تسوية تتضمن ذكر اسم المكان الذي التُقطت فيه الصورة فقط (الأردن، سوريا، لبنان، الضفة الغربية، قطاع غزة).

وهكذا قرّر سعيد وموهر وضع كتاب يحتوي على غالبية تلك الصور، ليس مع شروحاتها كما سجّلها المصوّر ساعة التقاطها فقط، بل مع نصوص مطوّلة كتبها سعيد خصيصاً، وامتدت على مقدّمة وخمسة فصول؛ بدأها سعيد هكذا: “منذ 1948 كان وجودنا من طراز أقلّ. عشنا الكثير الذي لم يُسجّل. قُتل منا الكثيرون، وأصابتنا ندوب، وأخرسنا، دون أن نترك أثرًا. والصورة التي تُستخدم في تمثيلنا لا تقوم إلا بإنقاص حقيقتنا الفعلية أكثر. وعند الكثيرين، لا يُرى الفلسطيني أساسًا إلا في هيئة المقاتل أو الإرهابي أو المطارَد”.

ولأنّ الفلسطيني لا يزعم أنّ شعوره مطابق لشعور جميع الفلسطينيين، فالتجربة كانت وتظلّ على قدر كبير من التنوّع والاختلاف، والمصائر متقاطعة ومبعثرة؛ فإنّ غرض الكتاب الأبرز هو هذا بالضبط: إنكار أيّ افتراض معتاد بسيط، أو حتى ضارّ، في تمثيل الفلسطيني؛ والاستعاضة عن هذا بخيار أكثر قدرة على التقاط الواقع المعقد لهذه التجارب. وكتب سعيد: “ما اعتزمت تصميمه، على نحو واعٍ تماماً، هو طراز من التعبير مغاير لما تحتويه وسائل الإعلام وأعمال العلوم الاجتماعية، والقَصَص الشعبية”. وتلك، استطراداً، كانت قراءة شخصية وذاتية للفلسطينيين كجماعة وطنية مشتتة؛ وهي “فاعلة، مفعول بها، فخورة، رقيقة، بائسة، طريفة، لا تُقهر، ساخرة، بارانويائية، دفاعية، واثقة، جذابة، آسرة…”. لكنها، في غمرة هذا كله، أسيرة السؤال الجاثم في قصيدة محمود درويش الشهيرة، والذي يستمدّ الكتاب عنوانه منها: “إلى أين نذهبُ بعد الحدود الأخيرة؟/ أين تطير العصافير بعد السماء الأخيرة؟/ أين تنام النباتات بعد الهواء الأخير؟”….

الكتاب لا يندرج في أعمال سعيد النقدية، من حيث الشكل والمحتوى بالطبع، بل يراوح ــ ببراعة قصدية ملحوظة، وفي إطار نقلات أسلوبية لا تخفى ــ بين الموضوع الفلسطيني السياسي الذي تولى سعيد مسؤوليات النطق البليغ بملفاته المختلفة المعقدة؛ وبين نزعة تأريخ القضية الفلسطينية والشخصية الفلسطينية عبر تقنيات السرد والسردية (كما سوف يطورها هايدن وايت وأمثاله)؛ فضلًا عن منهجيات استكشاف التاريخ الباطن، كما اقترحتها “دراسات التابع” الهندية الشهيرة.

ورغم ذلك فإنّ قضايا الأدب، ثمّ النقد الأدبي استطراداً، لا تغيب نهائياً عن الكتاب، بل لعل حضورها، من خلال أسماء غسان كنفاني وإميل حبيبي ودرويش وتوفيق زياد وجبرا إبراهيم جبرا ومعين بسيسو وهشام شرابي، يذهب بالأدب نحو أقصى ما تتيحه المخيلة الإبداعية عند تمثيل الشخصية الجَمْعية؛ التي في ذروة انفرادٍ شدّد عليها سعيد، لا تملك إلا تمثيل هذه أو تلك من السمات الأعمق للاجتماع الفلسطيني. والأرجح أنه يصعب أن نعثر في أيّ عمل من أعمال سعيد على لغة بهذه البلاغة العالية، وعلى انسراح المفردة نحو مناخات تصويرية أخاذة، وارتقاء النثر إلى سوية قصوى من التمثيل والتصوير والتجسيد والتشبيه، أو توظيف العبارة على النحو الأعلى إيعازاً من دون خطابية، والأبرع توصيفاً من دون تهويل ميلودرامي.

حكاية فلسطين، يكتب سعيد، “لا يمكن أن تُروى على نحو سلس”، لأنها ليست سردية تتعاقب مشاهدها، بل هي سردية متشظية، وإنشاءات على هيئة شذرات، و”شهادات مُمسرَحة عن سابق وعي ذاتي، حيث الصوت السردي يواصل التعثّر فوق نفسه، وفوق التزاماته، وفوق حدوده”. وهو يذكّر الإسرائيلي بأنّ الفلسطيني هو صورة “الهامش” التي لا يقوى “المركز” على محوها، و”أهون ألف مرّة/ أن تحرثوا البحرا”… من أن تُجبر تلك الصورة على الرحيل؛ ليس في غزّة ورام الله وبيت لحم والخليل فقط، بل كذلك في اللدّ والرملة والجليل!








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي