صادق الطريحي
يا قارئا، قَرأ الكتابَ وشرحَهُ، سَمِعَ المواعظَ والفصولَ لغايةٍ في نفسهِ، عَبَرَ الفُراتَ بقادسٍ قَصبيّةٍ مِنْ عَهدِ سومرَ في العُلا، عَبَرَ الفُراتَ، عبورَ مَلاحٍ خبيرٍ بالرّياحِ ونَوْئها! عَبَرَ الفُراتَ لينقذَ الأسماكَ، والكلماتِ، والأطفالَ مِنْ خَطرِ الجَفافْ:
يا أيّها الملاحُ، هَلا تنتبهْ!
أرأيتَ مَسالحَ اللّغةِ التي ترجو الظّهورَ بِظلّها؟
أشمَمتَ رائحةَ الصُّنانِ بنشرةِ الأخبارِ، أخبارَ الغُزاةِ وخيلِهمْ؟
أسمِعتَ أنفاسَ المُدرّعةِ الرّصاصِ تَجرّها الثّيرانُ نحوَ ديارِنا؟
زَيْتٌ وقارٌ ساخنٌ مِنْ أجلِ قاربكِ العتيقْ.
يا عابرا قَرأ الفُراتَ بحدْسهِ، أَوَلا تَرى الأحداثَ والمُتلازماتِ؟ لقدْ تَغيّرتِ النّصوصِ، وموعدُ الزّرعِ الحَصيدِ، وقدْ تبدّلتِ الدّلالةُ، والمعابرُ، والمساقِطُ، والقواربُ، والمسالحُ، والمعاجزُ، والمفارِمُ، بلْ تَبدّلتِ المَصائرُ كلُّها.
قَسَما، لقدْ فَرَمَتكَ شاحِنةُ الحِليبِ بقوّةٍ،
فَرَمَتْ تقاسيمَ النّوى،
فَرَمَتْ عظامَ بني أبيكَ ودورَهمْ،
سَقطتْ عليكَ كطلقةٍ جُلْمُودَةٍ صَمّاءَ مِنْ أقصى العَلِ
دَاسَتْ على عتباتِ بيتكَ حاملاتُ الزّيتِ، أفعالُ الكلامِ، عقائدُ الخُلفاءِ، أرْدتكَ الأشعّةُ قاتلا!
ـ هل أنتَ حقا هكذا؟
نصٌّ لقتلكَ في السّوادْ.
مِنْ طفرةٍ ما، طفرة في رَحْمِ ننسونِ العظيمةِ، صِرتُ جُنديّا بلكنةِ كاهنٍ زلقِ اللّسانِ، فكمْ نسيتُ مَخارجَ الأصواتِ، حتّى صارتِ الميماتُ ـ ميماتَ المياهِ ـ رَصاصا، مُتَثاقِلا، مُتَطايرا، صَلْدا وصَلْدا، صارتِ الفاءاتُ والهاءاتُ رَميا بالرّصاصِ وبالحجارةِ، صرتُ جنديَ احتياطٍ مَرّة أخرى، وأخرى، صرتُ مَفقودَ اللّسانِ ببرُجِ بابلَ، ألثغا، فنسيتُ تَشكيلَ الحروفِ لجملةٍ تصفُ الخليّةَ في انقسامِ نواتِها، وخيوطِها! ونسيتُ تَشكيلَ الحروفِ لجملةٍ تصفُ المكانَ، ومَوقفا في اللازمانِ رَواهُ أتباعٌ، وأتباعٌ، وأتباعٌ بطيّاتِ الحديثِ، ومتنهِ. ونسيتُ مَرسومَ النّظامِ؛ فأخّرَ العُقداءُ راتبَ شهرِ تمّوزِ القتيلِ، نسيتُ آدابَ الطّعامِ، فقدْ أكلتُ هُناكَ مِنْ ماعونِ نَسْرُوخِ البعيدِ، أكلْتُ لَحما طازَجا، مُستوردا، فنسيتُ اسمي عندما نادى علينا في السّوادِ (وكنتُ ألمسُ ذلكَ النّقشَ العجيبَ) فما انتبهتُ، فقالَ لي بقَسَاوَةٍ:
ـ أنتَ الطّريدُ…
وفي الطّريقِ نسيتُ أسماءَ المَصارفِ، والمَلاجئ، والبَطائحِ، والشّوارع، والموانئ، والمنازلِ، والملائكةِ الكرامِ ـ وكمْ تعبتُ بحفظِها!! ـ ففقَدْتُ: أوراقَ الهبوطِ، مفاتحَ البنكِ العتيقِ، نسيتُ كيفَ أصنّفُ الجيناتِ، كيفَ أفتّتُ الذرّاتِ، كيفَ أقسّمُ الأعدادَ والتّوريثَ؛ كي نبقى على قَيدِ السّوادِ بِصحّةٍ، وسلامةٍ، ومَسرّةِ، ونَسيتُ إتمامَ الكِتابْ.
زَيْتٌ وحافظةٌ لتغييرِ النّصوصْ.