محمد صالح مجيٌد
عاش المرحوم محمد الباردي عاشقا لمدينته الجنوبية «قابس» لا يغادرها إلا أياما في سفر إلى الخارج أو متنقلا للتدريس في العاصمة أو في سوسة أو في صفاقس.. لكن بقدر حبه لهذه المدينة الجنوبية كان جحودها ونكرانها، لم يحظ الرجل فيها بما يليق بمقامه العلمي، وبما يتناسب مع ما قدمه لجهته ولأبنائها.. عاش الرجل في محيط مناوئ، كانت السلطة تنظر له بعين الريبة ولا تطمئن إليه رغم النشاط الثقافي الذي قام به بالتعاون مع وزارة الثقافة زمن بورقيبة وبن علي. لم ينتم الرجل إلى الحزب الحاكم.. أقول هذا لا نفيا لتهمة ارتكبها، بل تثبيتا لحقيقة يحاول كثير من المتطاوسين الذين قذفت بهم رياح هوجاء لقيطة هجينة اطلقوا عليها اسم «الثورة» طمسها زورا وبهتانا، وحتى عندما خاض معارك من أجل معهد للغات في مدينته قابس، ارتأت السلطة أن تمنح إدارتها لغيره ممن هو دونه في الرتبة العلمية. أستاذ تعليم عال لا يمنح إدارة مؤسسة جامعية في قابس لأن شهاداته أعلى من المنصب! هكذا تفتقت قريحة بعض أهل قابس، ممن عرفوا أن قدومه يعني غلق الطريق أمامهم… لم يكن الباردي رحمه الله محبوبا.. لا لذنب ارتكبه، بل لأنه واظب وقاوم وتحدى الفقر وقلة ذات اليد، ليصنع من ضعفه قوة دون مساعدة أو منة من أحد. لم يكن محبوبا لأنه كان يكتب نصوصا جيدة وكان يصدر كتبا نقدية بانتظام. ألا يكفي هذا ليشعر بعض الحمقى من مدينته وما جاورها من ذوي الحمق الأكبر بالغيظ؟
ما جمعني بالمرحوم كان صداقة متينة واشتراكا في الإيمان بدور الثقافة في التنوير وتحوير العقول، عرفت الباردي وأنا طالب في كلية الآداب في منوبة، أعود إلى مدينتي صيفا فإذا بي في جامعة أكبر وأعمق.. أسماء لامعة تبدو كأنها كائنات فضائية، أراها أمامي تتجول في المدينة: توفيق بكار بمشيته الواثقة وسيجارته التي لا تفارق شفتيه، حنا مينه، أدونيس، جمال الغيطاني، الأبنودي، محمود أمين العالم، إلياس خوري، واسيني الأعرج، محمد عابد الجابري، نوال السعداوي.. لقد منحني مهرجان قابس الدولي زمن إشراف الباردي عليه، ومركز الرواية ما لم تمنحه لي كلية الآداب في منوبة.. وأدركت وأنا في سنوات التحصيل الأولى معنى الفعل الثقافي ودوره في نحت الكيان. كان الباردي يحترم الرتب العلمية، لكنه لا يقدسها، ما فتح عليه في أكثر من مناسبة أبواب جهنم. المرحوم الباردي ذو الأطروحتين.. نعم قضى الظلم الجامعي بان يتقدم ببحثين مبديا في العملين على اختلافهما إصرارا عجيبا على التحدي وفرض الذات… أشهد الآن أن هذا الرجل كان يلتهم الروايات التهاما، وكان يقرأ بشراهة عجيبة، ولا أظن أن أحدا يضاهيه في الاطلاع على الرواية التونسية والعربية. أذكر أنه كان يوظٌف كل علاقاته ليحصل على رواية جديدة ظهرت في مكان ما، وأذكر أنه لما حصل على «عزازيل» و»عمارة يعقوبيان» كان سعيدا كالطفل، وحدث مرة أن جلبت معي من فرنسا كتابا لرابتال صدر حديثا homo narrans لم يهدأ له بال، إلا بعد أن أخذ مني الكتاب ونسخه ثم قال لي «سأتفرغ لقراءة هذا الكتاب وكتاب ريفارا» ومعلوم أن المرحوم كان يفرض على نفسه نظاما يلتزم فيه بعدم مغادرة البيت لمدة ايام تفرغا لقراءة رواية أو بحث نقدي.
لم تكن علاقتي بالمرحوم نفعية.. عبثا حاول أن يعيدني إلى مقاعد الجامعة «يا محمد لا تضيع وقتك.. لك ما يؤهلك لاستئناف الدراسة.. أريد أن أراك في الجامعة» وكنت أمازحه بالقول هل تريدني أن افني عمري في «التبئير» و»العون السردي» والعالم من حولنا أرحب وأجمل.
جمعتني بالمرحوم الباردي معارك ثقافية خضناها بروح الالتزام والتحدي ضد متضائلين مستطيعين بغيرهم، لؤمهم وخستهم على وجوههم من أثر النفاق والجحود.. لم يكن المرحوم الباردي في قابس النخلة التي غطت الواحة، بل كان الواحة التي استظل بها كثير من الأوغاد.. وكم ضحكنا من سخافة مَنْ ظن أن الثورة تجبٌ ما قبلها، وأن الفرصة أصبحت مناسبة للتخلص من الباردي، الذي هيمن على الساحة الثقافية.
عرفت المرحوم الباردي فلم أر له صنوا في احترام العشرة وطيبة القلب وعشق مدينته والانتصار لطلبته والدفاع عنهم، وعشت في قابس فلم أر لها مثيلا في الجحود والإنكار، والسعي للنيل من الصادقين .
كاتب نونسي