7 أكتوبر.. أو حصيلة جَمْعِ الحروب

2024-02-21

من القصف على غزة (ا ف ب)

إبراهيم نصر الله

يبدو الكثير من الحروب الكبيرة محصلة جَمْع الحروب الأقل حجماً التي سبقتها، وإن لم يكن، بالضرورة، أن تكون الحروب السابقة حروب سلاح، أو بين الطرفين اللذين يخوضان الحرب الكبيرة في النهاية، فقد يخوضان حروبهما بالنيابة، بأطراف أخرى وعلى أراض أخرى، في أزمنة متقاربة أو متباعدة، لكن الحروب تبقى حروباً، حتى لو أطلقوا عليها اسم «الحروب الباردة» فلا حروب باردة أبداً، لأن تفاعلاتها والخوف من نتائجها داخل كل طرف قد يجعلها أكثر حدة، وأكثر تكلفة، وهما يتسابقان لامتلاك أسلحة أكثر دمارًا وفتكًا.

الحرب الحالية على غزة تبدو حاصل جمْع كل الحروب التي شُنّت على هذه البقعة الصغيرة المحاصرة من الأرض، المحاصر بشرها، وبرّها، وبحرها، وسماؤها. لم يكن البشر وحدهم أسرى الحصار، فحين يتم حصار البشر يحاصر هواؤهم وسماؤهم وماؤهم وخبزهم، وأناشيد بناتهم وأبنائهم في ساحات المدارس المحاصرة أيضاً، كما يحاصر الحاضر والمستقبل ويحاصر التاريخ.

.. والحرب الحالية هي حصيلة جمْع هزائم الصهيونية مضافة إليها هزيمة أخرى، ومحصلة صمود غزة يضاف إليه صمود جديد، هو في الحقيقة مجموع انتصارات غزة السابقة، غزة التي لم تنكسر.

كل صهيوني يريد أن يحسم المعركة لصالح كيانه العنصري، لكن انتصارات غزة وخساراتها التي تتجمّع اليوم في معركة واحدة، يضاف إليها خمسة وسبعون عاماً من القهر والتشرد والعذاب واللجوء والغضب، يحول معركة قطاع غزة إلى المعركة التي كان لا بدّ منها؛ يحولها إلى معركة لفكِّ أَسْر التاريخ السّابق لها.

في أغاني الثورة، حينما كانت الثورة ثورة، هناك أغنية كانت تملأ فضاءات مخيمات اللجوء في المنفى تقول كلماتها:

طفح الكيل وزاد الحدِّ/ وحذَّرنا الغدْر وما ارتدْ

كل مظاهرة صغيرة أو انتفاضة، أو عملية هنا أو عملية هناك، وكل قطرة دم، وكل حفنة هواء سُرقت من صدور أسيرات فلسطين وأسراها، لم تكن ضائعة، بل كانت تحذيراً، فكمية الهواء المتناقصة في صدر البشر لا تشير دائماً إلى اقتراب موتهم، بل إلى اقتراب انفجارهم.

وهذا ما حدث.

قد يقول البعض: ولكن ما حدث، حدث في اللحظة الأسوأ: صعود الفاشية العنصرية الصهيونية، وسقوط الأنظمة العربية، وحسابات رفاق السلاح (الدقيقة) الحريصة على التّصبّر لا التهور، والممانعة لا المقارعة، والانتظار لا الانتصار لغزة وأرض غزة ودم غزة ومقاتلي غزة وبحر غزة ويوم غزة التالي. لكن غزة رفضت أن يبقى هذا اليوم، بل كل الأيام، إلى الأبد، أياماً يحددها الصهاينة.

حددت فلسطين يومها التالي، وكان السابع من أكتوبر، وسيبقى السابع من أكتوبر يومها إلى الأبد، لا يجرؤ أحد أن يدّعيه أو يشارك فيه، إلّا من كان حليفاً له، وحليفاً لشمسه التي باغتت العالم؛ شمس أكبر حجماً من أي شمس يوم فلسطيني كان في الماضي. وما دمنا نتحدث عن حاصل الجمْع، سنقول إنه حصيلة جمع أحجام الشموس الفلسطينية، محذوفاً منها أيام الظلام كلها التي أصرت الأنظمة العربية على أن تكون فلسطين أسيرة عتمتها.

كان الفلسطينيون ومن يقفون معهم دائماً حذرين وهم يوجّهون السِّهام للأنظمة العربية المتواطئة، بحيث لم يتردد البعض في التعامل مع هذه السهام كنظرية مؤامرة، تساعد الفلسطيني على التخفّف من تبعات فقدان وطنه وتشرّده، وإلصاقها بغيره، حتى بعد أن راجع الفلسطيني تاريخه، ورأى، واعترف بالمسؤولية التي تتحمّلها قياداته، رغم أن كثيراً من تلك القيادات كانت رهينة تلك الأنظمة حيناً، أو غافلة عما تُضمره تلك الأنظمة، أو غافلة وصامتة.

كانت كل دول (الطّوق) المحيطة بفلسطين، وما وراءها مباشرة، تحت الانتداب البريطاني الذي يحتل فلسطين ويحتل تلك البلاد، لكن بريطانيا الداهية سمحت لعدد من الجيوش العربية أن تُزنّر خصور جنودها برصاص فاسد أو غير فاسد، أما غير الفاسد فكان أكثر فساداً من الفاسد، لا لشيء إلا لأن الأنظمة التي زوّدت جنودها به كانت أكثر فساداً من الرصاص الأول.

لم يبالغ الفلسطينيون ومن معهم قط في الماضي وهم يتحدثون عن دور تلك الأنظمة في ضياع فلسطين، لذا كان لا بد من ظروف أخرى، ودولة لا تقل فاشية عن الحكم الصهيوني، أمريكا الوقحة، (بدل بريطانيا الداهية)، لنرى أي حجم من العار ذلك الذي يلف أنظمة العرب ويسحبها إلى قاع هوانها وتذلِّلها، حتى بات بعضها وكأنه في سباق مع العدو الصهيوني لبلوغ نهائيات التنافس على من أنيابه أطول وأحدّ في معركة إبادة الشعب الفلسطيني، وإنهاء قضيته، وقتل أكبر عدد ممكن من أبنائه.

اليوم يعيد الفلسطيني صرخته «يا وحدنا» دون أن يخشى أن يُتهم بنظرية المؤامرة، أو يكون مضطرًّا لكتم سؤاله التاريخي: «ولكن يا هنيَّة ما لأبناء العروبة لم يطلّوا بعدْ؟!»، ولم يعد باستطاعة أحد أن يلومه إذا قال:

هنا حراسهم منفى

وعشرُ عواصم تعوي

وعشرُ عواصم في الظَّهر.

ونعود إلى البداية، لنضيف أن السابع من أكتوبر حصيلة كل هذا، وما سبقه من مذابح ومطاردات للفلسطيني خارج وطنه وداخل وطنه، هذا الفلسطيني الذي لم يعد قادراً على أن يحتمل أكثر، لأنه لا مكان له خارج وطنه، ولم يعد مستعداً للموت في المنافي من جديد، والصمت أمام المذابح التي ترتكبها أنظمة العروبة، المذابح التي كانت حصّتها من المذابح التي لم ترتكبها الصهيونية، لا لشيء، لتبدو هذه الأنظمة طيعة ومطيعة أكثر، وقابلة للعيش تحت بساطير الجنود الصهاينة أكثر، ولا نقول جنباً إلى جنب مع بساطيرهم.

وبعـــد:

في أواسط الثمانينيات من القرن الفارط كنا نكتب بالدَّارجة الفلسطينية:

قالتْ إمِّي بتيجي أيام ويكثرْ فيها الدّلالينْ

ولما يعمّ الدمِّ الشارع والريح وزهر البساتينْ

رح يدعوا جراحك تتروّى وتسامح نصل السِّكينْ

حتى امريكا ترضى عنّكْ وتتأكَّد إنك مسكينْ

وتتطمَّن إن جراحاتك زلّةْ روح اف زمن اللينْ.

قالت إمِّي بتيجي ايام وفيها بيعْلَى الواطي ويكْبَرْ

ويقولوا للريح السودا والصهيوني وليل العسكرْ:

إن الشُّهدا غلطة ومرَّتْ، لكن أبدًا ما بتتكرَّرْ

ويقولوا: بيكفِّي موت، ويرشوا ع سكوتكْ سُكّر

ويقولوا: إنتَ أحسن منّا؟ حتى ع العالم تتكبَّرْ..

لو كانت ترجع بالشُّهدا، لاعطيناها الشُّهدا وأكثر!








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي