قراءة متأخرة لرواية «تفصيل ثانوي»

2024-01-08

حسن داوود

قبل أن تصل الحكاية إلى أولئك الجنود الذين اتخذوا موقعا لهم في النقب، سنة 1949، هناك الصحراء نفسها، تلك التي ينبغي أن توصَف، وتوصف طويلا. ليس مثلما في الرواية عادة، حيث يسبق الكلامُ عن المكان الكلامَ عما سيجري فيه، فهنا، في ما يتعلّق بالصحراء، لم تخلُ الكتابة يوما من الغواية. من ذلك مثلا أن أشياء الصحراء القليلة تستدرج الكلام الكثير. ذاك أن كل شيء هناك لا عمل له إلا استدراج الحواس: الأصوات الآتية من بعيد، ألوان الضوء المتبدّلة ساعة بعد ساعة، في النهار كما في الليل، ثم الصمت ذاك الذي، حسبما تقترح علينا عدنية شبلي، ممكن وصفه، بل ووصف تحوّلاته أيضا.

لكنه، في الرواية، مكان مُقتحَم مغزوّ.. فرقة الجنود التي أتت لإخضاعه تبدو ضعيفة القدرة على البقاء فيه. فالطقس غير محتمل والفراغ مدمّر والأجسام منهكة من الحشرات الضارية. قائد الفرقة أصابته لدغة اتسعت وألهبت جلده، ما جعله يقضي أكثر الوقت معالجا إياها بالمراهم واللفائف. هو أكثر ضعفا من جنوده، لكنه مع ذلك يصدر أوامر ويجهّز دوريات، منفردا أو برفقة بعض منهم، من أجل أن يجدوا شيئا يفعلونه. لقد أبعدته رتبته عن أن يكون واحدا منهم، لذلك هو الأكثر وحشة بينهم. هو «بطل» الرواية الأول لكنه، كعسكري، لن يجد ما يظهر فيه عن بطولته. وحين لمح الجنود تلك الفتاة البدوية، عابرة قربهم، وجدوا شيئا يفعلونه. أشبعها هؤلاء ضربا وأسالوا دمها غزيرا. وإذ خطر لهم أن يعتدوا على الفتاة، رأوا أن عليهم، حسبما يقتضيه تراتبهم العسكري، أن يقدّموها لقائدهم أولا، وهو فعل ذلك وإن مشمئزا كارها رائحتها وتكوّمها غائبة عن الوعي في خيمته.

ومن بعده لم يكن الجنود في حاجة إلى أن يتلقوا أمره. في الرواية بدا كافيا ذلك المشهد الخاطف الذي رأى القائد فيه أحدا من جنوده يخرج من الخيمة، حيث كانت الفتاة قد نُقلت، وهو يعقد أزرار سرواله. كان هذا هو الأخير بين الجنود جميعا، ولذلك لم يعد من حاجة لإبقاء الفتاة في معسكرهم، لذلك أطلقت عليها رصاصة لتموت، من دون حركة ولا صوت، ومن دون أن يبدو ذلك فاجعا، أو مهما لأحد.

يحتل مشهد الصحراء وما جرى فيه نصف الرواية. النصف الثاني كُتب لملاحقة الحادثة، لكن بعد أن انقضت سبعون سنة على حدوثها. لسنا إذن إزاء مجزرة قضى فيها بشر كثيرون، فقط تلك الفتاة وحدها التي أطلقت عليها الرصاصة مثل حيوان ينبغي التخلّص منه، اغتصابها من الجنود ومقتلها من ثم، ما هو إلا «تفصيل ثانوي» (وهذا عنوان الرواية)، لكن كان على بطلة النصف الثاني من الرواية أن تعيد ذاك التاريخ القليل كاملا. أما دافعها إلى ذلك فمصادفة ولادتها في اليوم الذي قتلت فيه تلك الضحية.

هو المكان نفسه تعود الرواية إليه من جديد، لكنه تبدّل وتشابكت الطرق الموصلة إليه، كان على الموظفة الشابة أن تكتشف عالما مختلفا عما وُصف به المكان ذاته في النصف الأول من الرواية. هنا، كان المكان ضيّقا لا يتعدّى تلك الرقعة التي نصب فيها الجنود خيامهم وبنوا هنكاراتهم، أما هنا فتأخذنا الشابة معها في ما يشبه رحلة البحث في ما تغيّر في المكان. المكان الذي لا تعرفه، ولا يحقّ لها تاليا أن تدخله وتتجوّل فيه، حسب نظام انتقال دقيق ومعقد في تمييزه بين الناس. وهذا النظام أمعنت الرواية في وصف قوانينه وشروطه.

النصفان مختلفان إذن، لغة وخيالات وأسلوبا واستبدالا للشخصيات، ذلك خيار الكاتبة التي رأت أن لكل زمن خصائصه الكتابية، أو إن الصحراء الضاربة في الزمن تكتب بأقلام ليست هي التي تكتب بها الشوارع التي استبدلت أسماؤها ورسمت خرائطها بتنظيم متعجلّ. هكذا لم تشأ عدنية شبلي أن تتبع مجرى الكتابة السائد. لا إدانة مباشرة، ولا كلام صارخ. ما نحن إزاءه، نص أدبي فريد، سواء بتمكنه أو بإبداعه.

رواية «تفصيل ثانوي» لعدنية شبلي حجبت عنها جائزة كان قد أعلن فوزها بها. ذلك أثار الكثير من الاعتراض بين أوساط الأدباء والمثقفين، عربا وغير عرب. كانت الرواية قد صدرت عن دار الآداب سنة 2017.

كاتب لبناني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي