فن أن تكونَ وحيدا

2023-12-25

ملاك أشرف

صد الأعداء بالصمت

انتهى كُل شيءٍ عندما صمتت الكلمات

كلماتكَ أيها الجسدُ النحيلُ

كلماتكَ التي استراحت ولَمْ تعد تركض معهم

التي خذلتهم ولَمْ تخذلكَ

لا تخذل الكلماتُ صاحبها إن صمتت

لا يخذلهُ شيء إذا قرر التوقف عن المُطاردة

أيها الجسدُ المسكينُ

ما زلتَ في لُعبتِكَ تخذلهم قبلَ أن يطردوكَ

كيف يتربص الأعداء الصامتون؟

أقوى ما تتمكن منهُ يا جسدي

هو السخرية الطازجة من هذا التربص الهش

إذ الحبيس ليسَ كما نتصور

قد يكونَ سجينَ مُراقباتهِ المُحرضة

الصامت ليسَ كما نظن

حيث يبدو شاعرا ماهرا بزي البريء الساذج.

انكسرَ الضباب

خيط رفيع بينَ الساكت والناطق اللاهث

شَعرة واحدة بينَ الأصالة والاستعارة

لا تستطيع كُل عينٍ تمييز الفاصل.

يا جسدي المُنسحب، جسدي أُناديه

إن صمتكَ ثقيلٌ لا يمكن أن يتبددَ

اختلط الغياب المُؤقت بالذكاء

مما أوهم العدو بالفرار، ناسيا مَن المُخطئ

الذي يدحرج كرة الذنب هُنا وهُناك

كي يتسللَ هاربا مِن تهمةِ الخديعة.

أبكيكَ أيها العدو وأخلعكَ من نفسي

ببساطة البدايات المُطمئنة المُخاتِلة تماما

بسهولة القسوة المُشوهة في الأزمنة الآتية حتما!

المهوى الخصوم لن يمنعَ من التلصص

فجذوركِ أيتُها الروحُ المسروقة

ليست عقبة خطيرة في طريق الآخر،

كُلما رغبتِ بالاجتماع مع أحدهم

ينقلب حجرا لئلا يتركَ امتدادكِ طليقا

وحدهُ مَن ليسَ مُنعزلا ينكمش في الفخ

تاركا لحنهُ الحُر في مصيدة الغرباء

وغموضه الشفاف على طاولات اللقاءات العارية

ليقنعَ المعنى المُستدرج بنقاوةِ اللحظة المُقنعة

لا يبارح الوهم جوه الذي يُلهب المرء لاحقا

ما لا يكون شاعرا يضيع ويُبلى دائما

لا مفر من تسلط البلهاء

فإن حضورهم يلغي التعبير المُتسكع.

ينمو المنفى السري في نقص الحقيقة والنقاء

ولا يعرف المُتربص شيئا عنه

غير المنظور يغدو مشبوها

إلا أنهُ يلتقي الجسدَ يوما

ومن فرطِ الصمت والخذلان

لا يعرفهُ أيضا، كأنه أعمى واستعاد بصره

كُل ما بوسع واحدنا فعله إذن

هو المضي قدما كنهرٍ يعود إلى نبعهِ

لا شيءَ يُؤلم في الحياة

«أكثر من بشاعتين: البخل والمنفى»

ما تبقى من العُمر الذي لَمْ نلمسهُ بعد

غير كافٍ للقبضِ على السخاء،

لا هوادة في مُلاحقةِ الانتماء

كانَ عبثا أن أشرح للأعداء

أن الصمت الذي أغص بهِ وسط الأشياء

هو انتقامٌ سريعٌ مُخصص

تلفعتُ بهِ في هذهِ المُسابقات المُفلسة

لأغسل أجزائي من أثر الضربات

أو ليكون رداء يحجب مذأبة المُنافسات

يذكر العابرون بينَ المحبة الضئيلة والبغضاء المُتورمة

أن صمتي بقي «كعقدِ زواجٍ مُقدس»

ويضيفون إني لَمْ أتخبط

كمَن رقصَ ثملا في المجهول،

الصمت إرثي الوحيد

فيده الواثقة قادتني إلى الخلود

مثل يد «وديع» المُرتجفة

حينما قادتهُ إلى الكنوز

هل كانَ علي أن أخبر الجميع بكُل هذا

لأصلَ إلى فهمِ أحدهم في أقل تقدير

دون ذلكَ الظن العابث

الذي يحولُ السكوت إلى انطفاء

كما لو أن القلب يتدلى بعده جريحا

من أجل السكون في الغياب القلق؟

الصمت يُنمي الاغتراب

لكنهُ يحفظنا من عراة الكلام الخائبين..

مشهد فوتوغرافي مُتسِخ

يتكور الحزن في عيني

عندما أَتذكر النادل الذي ساعدني على الجلوس

لأن الكرسي المُتحجر رفضَ أن يتحركَ من مكانه،

ساخرا من الرجل الواقف أمامي

ذلكَ الذي أُناديه حياتي

نافضا يديه من هذهِ العلاقة التي لا طعمَ لها.

في ضجة الداخل، كذب الرجل عليّ

أخترتُ لحظتها ضجةَ الخارج الأشد حرا

مضت سنة على إصراره

من أجل إيصالي إلى البيت وحينما وافقتُ

أهملَ الطفلَ البائع في طريقنا،

لم يشترِ لي زهرة وكأنه غدا بلا ذاكرةٍ

تسترجع حديثي الشائق عن زهور الأوركيد!

على طرقات بغداد، بعيدا عن الدار تركني

هُنالك جروح انفتحت مرة أُخرى

بسبب الاغتراب النفسي المُلَوث

«هُنالك ابتسامة ضاعت في ثنايا الوجه»

آه، لكني أحب شعور أن أكون برفقةِ أحدهم

أكملت طريقي وحدي

مشيتُ حتى أحسستُ بأن الشوارع قد مَلت مني

يمل منكَ ما لم تمل منهُ

ينساك مَن تهمس في أذنه «تذكرني»

الضجر يصبحُ ذِكرَى

الذِكرَى تصبحُ قصيدة

وبينهما مشهدٌ كامل يتسلل مُلطخا بالحنين،

ثم ينعزل في ركنٍ مُنطفِئ في ما بعد..

قال لي صديقي مُعترضا على لقائي بذلكَ الرجل:

لم تكن القضية مُجرد مسألة ذوق مفقود

بل إنها مسألة احترام يحتضر

أنتِ دفعته إلى الانتحار من شرفةِ المقهى

صدقتهُ ثم وقفتُ عاجزة

لأحوك الكلمات التي تريد أن تنطق

كلانا يحتاجها لتضميد رُضوض الخذلان

لم أستطع فعل شيء

سوى أنني اتفقت معه

وأعلم أن الاتفاق هو بداية الاستثناء

والاستثناء هو نهاية الصداقة

سقط الرجلان من قلبي،

سمعتُ السقوط الثقيل

كما أسمعُ الريح الهَوجاء في المساء.

الضباب يفترشُ سمائي الهائلة

كالثلج وقتما يكتسح الأرض

ثمة صداع وقح يفيض في عقلي،

يجعلني أجلسُ وحيدة بلا نافذةٍ جانبية

كمَن يفك شرائط مُتداخلة ببعضها ويفشل

مثل تعقيد هذهِ الشرائط أُفكِر عندَ الفجر

يدرك المرء أن هذا النشاط الذهني العليل

لن يتوقفَ عن صنع الأفكار الشائكة

لا شيء يمكن أن يؤذي الجسد الميت الآن

ما زلتُ أتشبث بفكرة السقوط

على أمل أن أسقطَ -أنا- أيضا من العالم

مثلما سقط الرجلان من حيز فضائي تماما

إن داخلي أخف من أن يحمل رجلين في الوقت نفسه

أحسبُ أني ليسَ بوسعي السقوط بسهولةٍ

فالأحلام تسحبني إلى أحضانها

هامسة في رأسي أنها لن تتخلى عني ببساطة،

هذهِ الأحلام ذاتها قادتني نحوَ الكآبة

ليست هُناك طرائق سهلة لقطف الخلاص المُطلق

أقول هذا بإيقاعٍ مُرتفعٍ لأُقنعَ نفسي

بينما أحاول الهروب من هذهِ الورطة.

غابات المعنى الساهية

أول مبنى من ذلكَ المكان يُناديني مرة أُخرى

هل أطلب من نفسي العودة؟

هل أُطالب العابر من الرصيف الأمامي

أن يبكي من أجلي بلا هوادة؟

الاستسلام لفظة لا تُناسب قاموس النضال

ها هو القلب يتحدث معي ويطلب مني أن أُبطئ

لكني أُغني لجرحي ثم أنسى ما لا أرى

لماذا أسير فقط على طرق النكران؟

أقول للأغصان التي تفرش حقولها بين الصخور

عندما تشكُ في ديمومتها غير الطيعة:

لا يستمع المرء إلى الكراهية

إلا إذا كانَ مأخوذا بالنهاية،

وأضيف بسخريةٍ أنني لا أستحق الحياة

ولستُ واثقة «أن اليابسة أقل تموجا من البحر».

يهاجر الواقع تاركا عقلي في أرض الخيال الطائشة

مثل البجع الوحيد دون بحيرة مُنعزلة آمنة

ما أكثر خذلانكَ أيها العالمُ المتهور!

كم سيكون مُناسبا أن نموتَ الآن

رُبما الموت ليس سوى الضياع وفقدان الجوهر

خيل إلي أن الشعر سوف ينقذني

لكنهُ فشل أيضا في استعادة صور النبيذ

ولم يعتذر أحدٌ للشُعراء عن حزنهم

ما أقسى الزمن الشحيح، يؤكد الملاك!

أسرعتُ باكية نحوَ ذلكَ المبنى

تفوقتُ في اللغة الأُم وخسرتُ صوت الذات

ليس بيني وبين كُل الأشياء سوى الهجسِ.

الصمت يختبرني فأنجح

لقد نجحتُ أيضا في جعل الذاكرة لا تَنسى

اتخذُ الخوف والحزن أصدقاءَ لي وأمضي قدما

القلق يحتضنُ الاحتمالات المُتبقية

وأنا دائما أتذكر شيئا واحدا

كيف اكتنفُ ما لا يكتنف

كيف أحب ما لا فائدة منه

كمَن يعرف الشوك وفي الأخير يلمسه

آه، أيتُها الأعمدة يا سارقة النهار

فقبح الليل يخلفهُ ضوء الصباح

أنتَ وحدكَ أيها المخذولُ تدرك المشهد

يا للطائر الذي حلقَ في خدعة التعاقبات.

إن الأكثر حقارة هو ما نسميه الواقع

والأغرب ما في الأمر هي غابات المعنى

التي تستمد منهُ تعقيدها ومرارتها

في حين أن التعاسة الثابتة

يجب أن تسكنَ المنفى فقط

صرتُ أكثر يقينا أن القبر

هو ما كانَ ينتظرني

في ذلكَ الوقت ولم أذهب إليه

لو ذهبتُ لرأيت الزهور فوقي

بدلا من هذهِ الجروح المُشرقة،

الليلة سوف يرن الندم في رأسي

كاسرا الهدوء حتى لا ينتشر الفرح بسرعةٍ كبيرة

منذُ عام لم تتركنا الجدران مُتكئين عليها

لذلك لم أكن وحدي تماما،

بل كنتُ مُتعبة، وتعبي مَن رافقني.

شاعرة عراقية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي