لا تصالح: وصية المقتول المكتوبة بالدم

2023-12-25

مروة صلاح متولي

كتب أمل دنقل قصيدة «لا تصالح» قبل عام من ذهاب الرئيس محمد أنور السادات إلى إسرائيل، عندما رأى ببصيرة الشاعر نحو أي اتجاه تمضي الأمور، فأطلق صيحته محذراً، وبثّ رجاءه في تراجع لم يحدث، وأعلن موقفه السبّاق كأول الرافضين، وحفظ هذا الموقف في شعر يخلده على مر السنين. رجع الشاعر إلى أقاصيص حرب البسوس، وقال كلماته على لسان كليب، وهو يصارع الموت في لحظاته الأخيرة، بعد أن أصابه جساس برمح في ظهره، مرتمياً على الأرض غارقاً في دمه، يغمس كليب إصبعه في ذلك الدم، ويدون على حجر وصيته لشقيقه المهلهل أو الزير سالم.

الصوت في القصيدة إذن صوت كليب، لكن هناك صوت الشاعر نفسه، ووصيته التي تصلنا من خلال وصية كليب، الرمز الشعري لكل مقتول بغير ذنب، وكل حق ضائع مغتصب. جاءت قصيدة «لا تصالح» ضمن مجموعة شعرية بعنوان «أقوال جديدة عن حرب البسوس». تتناول قصائد المجموعة مشاهد متعددة من الحرب العربية القديمة، التي وقعت حوادثها في العصر الجاهلي وامتدت أربعين عاماً، فضربت بها الأمثال، وأخذت منها العبر، وصارت ولا تزال مادة غنية فنياً، وحكاية غير مملّة مهما كثرت معالجاتها.

بدأ الشاعر مجموعته بقصيدة «لا تصالح» حيث مشهد مقتل كليب، ووصاياه العشر التي أوصى بها شقيقه المهلهل، ثم أتبعها بقصيدتي «أقوال اليمامة» و»مراثي اليمامة» وفيها يُسمع صوت اليمامة ابنة كليب، وصوت المهلهل أيضاً.

«لا تصالح» هي أشهر قصائد المجموعة التي نظمها أمل دنقل عن حرب البسوس، بل إنها من أشهر القصائد عن واقعنا العربي بأكمله، في الماضي والحاضر. وإذا كان الأمر لم يكن يتطلب رؤية سياسية جبارة، لكي يقرأ الشاعر ما سوف يحدث بعد عام من كتابة قصيدته، فإن امتداد رؤيته إلى وقتنا الحالي، واكتسابها المزيد من المصداقية، يجعل المرء يتوقف أمام القصيدة، متألماً وهو يطالعها اليوم، ويتأمل صورها التي تصف ما تراه الأعين، ويقراً كلماتها التي تعبر عما في القلوب. يمهد الشاعر لقصيدته نثراً إذ يقول: «فنظر كليب حواليه وتحسر، وذرف دمعة وتعبر، ورأى عبداً واقفاً فقال له، أريد منك يا عبد الخير أن تسحبني إلى هذه البلاطة، لأكتب وصيتي إلى أخي الأمير سالم الزير، فسحبه العبد إلى قرب البلاطة، والرمح غارس في ظهره، والدم يقطر من جنبه، فغمس كليب إصبعه في الدم، وخط على البلاط وأنشأ يقول..». هكذا يخبرنا الشاعر أن الحديث لكليب في ما هو مقبل، وأننا بصدد قراءة وصيته، كما أنه من خلال هذا التمهيد، يضعنا في الجو الخاص بالقصيدة، ويحدد مكانها ومنها، وإن اتسع هذا المكان ليشمل أماكن أخرى، وامتد الزمن في اتصال لا ينقطع، وكذلك يرسم خطوط حالتها الدرامية، وشحنتها النفسية، ويخلق للقارئ الصورة التي يتلقى من خلالها الكلمات، حتى لا ينسى القارئ أنها كلمات مكتوبة بالدم.

الشاعر والسياسي

أمل دنقل شاعر ثائر مجدد، لكنه ليس سياسياً، ولا يحاول في أي من قصائده أن يتقمص شخصية السياسي، ويتحدث بلسانه، فالسياسة لها ألاعيبها المتغيرة باستمرار، وقوانينها التي لا تعرف الألوان الواضحة، أو تتعامى عنها عمداً، وترى كل شيء ممكناً، وتحترف المساومات والصفقات، دون النظر إلى ربح تام أو خسارة كاملة. لا يعني ذلك أن السياسة غير موجودة في شعر أمل دنقل، فهي حاضرة بقوة، هذا أمر واضح لا يحتاج إلى طول تأمل، ولا بأس في أن يقترب الشاعر من السياسة، بل لا مفر من ذلك في أحيان كثيرة، لكن عليه أن يبقى شاعراً ثابت القدمين في ميدانه الخاص، يرى السياسة بعيني الشعر، ويقول رأيه السياسي في أبيات قصيدة مكتملة الأركان الفنية، بعيداً عن الصياغات الجافة، والبيانات السياسية المباشرة. يستطيع الشاعر أن يتناول الحياة بكل ما فيها، وأن يكتب عن كل ما يراه ويقع من حوله، لكنه يفقد الكثير من شاعريته، عندما يظن أنه يستطيع لعب أدوار أخرى إلى جانب دور الشاعر. لذا نظم أمل دنقل قصيدة «لا تصالح» شعراً خالصاً، ولا يضيره إن تحولت فيما بعد، خصوصاً مطلعها المعروف، إلى مظاهرة سياسية في حد ذاته، فرغم ارتباط القصيدة بالسياسة ارتباطاً وثيقاً، إلا أنها ليست هتافاً سياسياً أو خطبة حنجورية، كما يحاول أن يصورها البعض، ويصر على أن يضعها داخل هذا الإطار. القصيدة قطعة جمالية درامية، متسلسلة الأفكار، متماسكة الوحدات، فيها الخيال المتسع الذي يصل الماضي بالحاضر، وفيها الصور البليغة، والكلمات النافذة بعمق إلى جوهر المعنى. من خلال ذلك كله، عبر أمل دنقل عن موقفه السياسي بصدق وشجاعة، وأعلنه واضحاً صريحاً، وتركه للأيام المقبلة تفصل في صحة منطقه.

يقول مطلع القصيدة: «لا تصالح.. ولو قلدوك الذهب.. أتُرى حين أفقأ عينيك.. ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى». يقترن هذا المطلع بمناهضة محاولات التطبيع، وعقد معاهدات السلام مع العدو الإسرائيلي، ويتم استحضاره كحكمة دالة على عظم المفقود المسلوب، وحقارة الممنوح في المقابل مهما غلا ثمنه. «لا تصالح» مبدأ أو فكرة أساسية ينسج الشاعر على منوالها، حتى في قصائد المجموعة الأخرى، على لسان «اليمامة» ابنة كليب، في قصيدة «أقوال اليمامة» حين تقول: «إن الحمام المطوق ليس يقدم بيضته للثعابين.. حتى يسود السلام.. فكيف أقدم رأس أبي ثمنا؟ ومن يطالبني أن أقدم رأس أبي ثمناً.. لتمر القوافل آمنة.. وتبيع بسوق دمشق أسلحة من بخارى». المعروف من قصة حرب البسوس، أن الثأر لم يكن كافياً بعد مقتل كليب، وظل شقيقه المهلهل يقول: «أريد كليباً حيا» وكذلك ابنته اليمامة كما كتب أمل دنقل على لسانها: «أبي.. لا مزيد.. أريد أبي عند بوابة القصر.. فوق حصان الحقيقة.. منتصباً من جديد.. ولا أطلب المستحيل.. لكنه العدل».

هكذا يعبر الشاعر في قصيدة «لا تصالح» وقصائد المجموعة بشكل عام، عما هو أكبر من الثأر، وإن كان لا يغفل ضرورة الأخذ به، والعار الذي يجلبه التقاعس عن هذا الأمر. وتتبدى في بعض الأبيات صعيدية أمل دنقل، وهو من أبناء محافظة قنا، حيث تتغلغل ثقافة الثأر هناك، وفي جنوب مصر عموماً، فنراه يكرر كلمة الثأر في القصيدة، ويذكر «العار» تلك المفردة التي تقترن بالثأر دائماً، في حال عدم الأخذ به عند أهل الصعيد، فيقول: «لا تصالح.. ولو قيل إن التصالح حيلة.. إنه الثأر تبهت شعلته في الضلوع.. إذا ما توالت عليها الفصول.. ثم تبقى يد العار مرسومة.. بأصابعها الخمس فوق الجباه الذليلة».

جاءت القصيدة في عشرة مقاطع، في المقطع الأول بعد مطلع القصيدة المعروف، يذكر المقتول أخاه بما يربطهما من علاقة أخوة، وتفاصيل هذه العلاقة بداية من ذكريات الطفولة، والحياة المشتركة الآمنة في كنف الأب والأم، ثم تحول كل منهما إلى مصدر أمان للآخر، وحصن يمكن الاحتماء به، ثم يذكره في نهاية المقطع، بدمه الذي يجب ألا ينساه. وفي المقاطع التالية يفصل الشاعر فكرته، ويتعمق في شرح منطقها، حيث يكتب بإحساس المقتول الذي يودع الحياة، ولا يستطيع أن ينتقم من قاتله، ويكتب كذلك بإحساس كل مظلوم لا يستطيع رد مظلمته، وكل صاحب حق لا يقدر على استرداد حقه. فلا تسامح مع العدوان أياً كان نوعه، بداية من اغتصاب الأوطان، إلى أقل درجات الأذى المعنوي. والدم أمر عظيم لا يمكن التهاون في شأنه، قد يشفي قتل القاتل بعضاً من الغليل، لكنه لا يمسح الألم، ولا عدل إلا أن يعود المقتول حياً، لذلك تنطوي شخصية الزير سالم على بعد درامي رائع، في بحثه عن المستحيل وتشبثه به، وهو يقطع الأيام والأهوال قائلاً: «أريد كليباً حيا».

يقول أمل دنقل: «لا تصالح على الدم حتى بدم.. لا تصالح ولو قيل رأس برأس.. أكل الرؤوس سواء؟ أقلب الغريب كقلب أخيك؟ أعيناه عينا أخيك؟ هل تتساوى يد سيفها كان لك بيد سيفها أثكلك؟». هنا أيضاً تتبدى ملامح من ثقافة الصعيد، حيث يتم الثأر أحياناً من عدد هائل من الأشخاص مقابل شخص واحد، ولا يتم الاكتفاء برأس واحدة. في مقطع آخر يقوي المقتول قلب أخيه، ويحذره من أن يلين يوماً، أو يرق لبكاء نساء القاتل، ويشفق على أطفاله. وإذا حدث ذلك، فعليه أن يتذكر «اليمامة» ابنة أخيه المقتول، الطفلة التي كانت تتمتع بدلال أبيها، وهي الآن «زهرة تتسربل في سنوات الصبا بثياب الحداد» تسعى في الدنيا وحيدة، لا أخ لها. لن تفرح بعودة أبيها إلى البيت مرة أخرى، لن ترى ابتسامته يوم زفافها، لن تذهب إليه غاضبة من زوجها، لن ينعم أطفالها بحب جدهم، ولن «يلهوا بلحيته وهو مستسلم ويشدوا العمامة». بعد ذلك يقوم الشاعر بهدم منطق القائلين بالتصالح، فيقول: «لا تصالح ولو قيل ما قيل من كلمات السلام.. كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنس؟ سيقولون ها أنت تطلب ثأراً يطول.. فخذ الآن ما تستطيع.. قليلاً من الحق في هذه السنوات القليلة.. إنه ليس ثأرك وحدك.. لكنه ثأر جيل فجيل.. وغداً سوف يولد من يلبس الدرع كاملة.. يوقد النار شاملة.. يطلب الثأر.. يستولد الحق من أضلع المستحيل.. سيقولون جئناك كي تحقن الدم.. سيقولون ها نحن أبناء عم.. قل لهم إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك.. واغرس السيف في جبهة الصحراء.. إلى أن يجيب العدم». ومن أبلغ ما قاله أمل دنقل في قصيدته: «لا تصالح.. فما الصلح إلا معاهدة بين ندين في شرف القلب».

كاتبة مصرية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي