ثلاثمائة حصان يعدون سويةً

2023-12-10

تعبيرية (unsplash)

هدى عرموش

استلقيتُ على الأرض، سمعت عدوَ ثلاثمائة حصان. أنا لم أعدّهم من قبل، إنها معلومة شائعة في الصحراء؛ أنّ ثلاثمائة حصان يعدون سويةً من دون سرجٍ أو لجام. رأيتُ منهم الغبار فقط وحصانين اثنين في المقدمة متماثلين. صار شكل السماء مثل شكل الصحراء جرّاء عدو الأحصنة، كانوا يتجهون نحوي. أُغمي عليّ.

اتجه إليّ غريب عَرّفتُه على أنّه الموت لأنّه كان يرتدي عباءة سوداء ويغطي رأسه بالأسود، ويَحمل منجلًا، وكنت في سريرٍ حديدي، في غرفة مُغلقة جدرانها مرايا. حدّق فيّ، لم يكن لديّ كثير من الخيارات لأتجنّب الرعب فأغمضت عينيّ. كان المنجل على شفتيّ، أغرقته برطوبة نَفَسَي ليتفتّت عمداً. لم أفتح عينيّ تماماً، لكن وفتات منجله يتساقط فوق وجهي رأيت لمعان نجمةٍ فيه.

نفضتُ لثامي وقمتُ لا أطلب وجهةً، أُريد فقط إعطاء بعض النشاط لجسدي فهرولتُ قليلًا ووثبت، لمّا كانتا يداي في الهواء لامستُ صخرة. ومرّة أُخرى وثبت، أمسكتها. فتحت عينيّ، أدركت أنّها كانت قابعة طوال الوقت على صدري. كانت تعلوها غيمة منيرة من ضوء القمر في السماء، أزحتُ الغيمة بيدي فكشفَتْ عن القمر، ضغطت عليه بإصبعي فأصبح لون القمر أخضر وتغيّر لون السماء إلى بنفسجي. ضغطت عليه مرة أُخرى صار أحمر، أرجعته أخضر. رأيت نجمة.

 تمنيّت أن أرحل عن صحراء الثلاثمائة حصان إلى الأبد، أن أحزم حقائب رمليّة وأذهب. صوت العدو قريب. تأملت نجمة بعيدة لكن سطوعها الآن صار معي في غرفة المرايا ويضيء مباشرة في عينيّ أو أراه من عين المنجل.

استيقظت. سمعت العَدْوَ بعيداً للثلاثمائة حصان، ثمّ لمع في ذهني أنّ النجمة هي قمرٌ صناعيّ لعين. ماذا يُطْلَبُ من السماء سوى أن نرى النجوم والمذنَّبات والشهب؟ رأيتُ حولي شعر رأس وآذان يروحون ويجيئون، من دون وجوه ولا أصابع لديهم، تبقت راحات أكفّهم، لذا بدت أيديهم كالملاعق. كانوا يقرأون الجرائد. وكنت أرى الجراد يأكل حصادهم، ويوزع عليهم مزيدًا من الجرائد. على أذن أحدهم جرادة، كان لديه عينٌ واحدة حتى طارت الجرادة وفقدها. لم يحاول إبعاد الجرادة، ولمّا سأَلتُهُ عن كل ذلك، نظر إليّ ونظرت إلى الفراغ المجاور خلال وجهه؛ لم أعلم أين أثبت نظري، هبط نظري على نخلة. قال على الأغلب لأننا لا نستطيع ركوب الأحصنة، أو كان قد قال لأننا لا نركب الأحصنة صِرنا من دون أصابع، نسيت أيّهما.

قصدت تلك النخلة كي أقص من ظلّها وأرتديه. فأتى نسر وصفّق جناحيه على وجهي، تعثرت، وباستسلامٍ منّي بدأ ينقر على صدري حتى خلع عظمة، وما برح يُنَبِّشُ حولها. رأيت قلبي. قلبي، لِمَ لا ينبض؟ كان خيط دمّي ينساب من منقاره وآخره إلى الأرض غليظًا. هششت النسر لأرى ما خطب قلبي، رحت أنبّضُ قلبي، ومرغته بالرمل بكلتا يدي. قَدِمَ شخصٌ آخرُ، أخذَ الظلَّ الذي نسيت أنْ آخذه، لفّه لثامًا كي يبعد وهج الصحراء. راح النسر يعبث به أيضاً، الآخر كان قلبه لا ينبض. وضعتُ قلبي في مكانه، ودققت على صدري ثلاثًا بقوةٍ لربما يستأنف النبض فَنَخَّ جملٌ عظيم أمامي، لا أعلم من أين أتى، ظننت أنه يصرّ على أن يحملني.

كانت النقلة بين القدم الأمامية والخلفية ثوانٍ. لم أكن أدري أنَّ بين الأراضي فواصل إسمنتيّة، وأنّ هناك فاصلاً يحيط بالصحراء، لم أره إلا وأنا على ظهر الجمل. أيها الجمل العظيم إن مِفْرَشي هنا أحسنُ من أحسنِ ظلٍّ على الأرض. فجأةً، هبط المنجل وقد توقف فوق عينيّ وفيه نجومٌ تلمع، فنخّ الجمل العملاق بقرب سطح أحد البيوت.

دققت السطح بكعب رجلي وناديت: يا أهل البيت؛ ذلك ليسمحوا لي بالنزول. لم يرد أحد، جفّ حلقي وأنا أنادي يا أهل البيت. نزلت السلّم، رأيت أوعية الطعام مليئة. لا أتذكر متى كانت آخر وجبة تناولتها. لم أشعر بطعم الطعام إلا بعد السكبة الرابعة. كنتُ أرغب بالنوم بعدها، وإذ صوتٌ يقول أنتِ الوحش. ثَمَّة طفلٌ صغير يحمل رمحاً. وقال مرة أُخرى: أنتِ الوحش، وثبّتَ أسنانه على حرف الشين الممتد حتى سن رمحه الذي يرتجف. قلت له أجل أنا الوحش. التعب والنعاس سحباني كحرّاس السجون وأمراني بافتراش الأرض للنوم. استلقيت، ودارَ طوق الصداع حتى أُفلت الجزء العلوي من رأسي مثل غطاء قنينة، فسكبتُ عَقلي في كوب ماء، فكان صوت السكب مثل صوت عدو الثلاثمائة حصان. خالطه صوتٌ يقول أنتِ التي بنيت الجدار، وأقول له أجل أنا التي بنيت الجدار.

تجمّعٌ من الناس يتهافتون على إيقاع اللوم عليّ على أشياء غريبة ويصيحون: من أسقى النار العطشانة الماء؟ ويضربون على رؤوسهم: من ربط الغيمة فوق البئر؟ ويمزّقون ثيابهم: ومن علّم الحمار أن يصدر صوتاً؟ ربما أتذكر أنني وقفت أمام حمارٍ ومثلّت أنني المايسترو، رفعت عصاتي وشكلت مثلثات في الهواء حتى ضَحِكَ نهيقًا من سماعِ نهيقه أول مرة. ربما إن وقفت أيضًا أمام الأحصنة ولوحتُ أمامها مثل مايسترو ستتذكر أنّها تستطيع التوقف عن العَدْو، والاستمتاع بأي شيء، بشعر ذيولها مثلًا؛ لتكف عن إثارة الغبار في كل مكان حتى أرى السماء والنجوم. وما كدت أضع عقلي في رأسي لأتذَكر أشياء أُخرى حتى رمتني خارجاً.

كان المساء، والثلاثمائة حصان يعدون سويةً، يثيرون وراءهم الغبار، داسوني مرّة أُخرى، كأنني حبّة من بين حبّات الرمل. ولمّا فكرت أن أزحف مبتعدة إلّا بمهرة صغيرة صهلت، أول مرةٍ أراها، ركلتني ودبكت فوق وجهي، بدَوْتُ لها كدودة تتلوى شريرة مؤذية. ربما لم تعجبها فكرة الاستمتاع بالوقت، بل تفضل العَدْو دون فناء لتغبِّر النجوم. بعد مرور أقدامِ الثلاثمائة حصان، هممت للذهاب إلى صديقة لي، ورغم أنني لم أكن أر جيدًا إلا أنني شعرت بالناس وهم يبتعدون عنّي عمداً، كأنني أنا التي من دون وجه. حدثتها عن كلِّ الناس المجانين الذين بدون أيادِ أو وجوه، يأكلُ طعامهم الجراد، وعن الجمل، وعن أهل البيت الذي يقولون بأنني الوحش. ثم سألتها عن حالها وعن الطعام الذي تحضّره. تقول إنها جنود بالعجين واللبن. أمسكت الملعقة أعُدُّ الوجوه بها. تناولت لُقمة وقبل الثانية كان الجنود يخرجون من فمي، فتحوه كفخ الكماشة ونزلوا من فمي يحاصرون الطبق. كان الجنود يضربون اللبن بالسكين، مع كل ضربة تطفح بقعة صغيرة من الدم، ثمّ يقع الضارب مقتولًا دون سبب. آخرون هربوا يبحثون عن كهوف، مثل فمي يظنون أنه كهف أيضاً. الجنود ما زالوا يصرخون في الطبق، وأقول لها يختبئون هناك تحت المغسلة. وأحدهم عالق بين أسناني لم أستطع سوى بلعه.

وقفت وبدأت بتكسير الأشياء. كانت صديقتي تنظر إلى يدي، تقدمت هي نحوي إلا أنّها انفضّت. واجهت يديّ وحدي، كلما كنت أحاول سؤالهما لأعرف ماذا فعلتا أو ماذا نسيتا، كانتا لا تقبلان ردًا، لا سؤالًا ولا جوابًا ويزيد ذلك من غضبهما. رَمت يداي الكرسيَّ الذي كنت أجلس عليه، الجنود الميتون على الطاولة صفّقوا بحرارة وهم نيام، البقية المُضطجعون حول نارٍ أشعلوها يشاهدونني أتقاتل مع يديّ، ويستمرون بإطعام النار من شظايا الغضب التي وصلتهم. لم أعد أنتبه ماذا تفعل يداي، نظرت لهما كخائب الرجاء، جررت نفسي نحو الباب وأنا شابكة روحي وراء ظهري. عندما مرّت الأحصنة أطبقت يداي على ذقني وجبيني وفردت أصابعها مثل قفص لترفع وجهي نحو الأحصنة، ما زالت تعدو، زحفت نحوها، لم أسأل إن كنت أنتمي إلى شيء. شعرت بالدوار، يداي تخنقاني وهناك رأيت السماء والنجوم اللامعة. استيقظت، كنتُ مستلقية في ساحة البيت. نظرت للسماء، الأحصنة لا تزال تعدو، والنجوم لم تعد تضيء.

شاعرة من نابلس بفلسطين المحتلّة








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي