
محمد خضير سلطان
قدمت رواية «منازل العطراني» لجمال العتابي ـ الصادرة عن منشورات اتحاد الأدباء العراقيين 2023- أسلوبية خاصة لها شكلها في تحليل وقراءة التزامن والتجاور السرديين، جاءت على النحو الذي تهيأ لعدتّها الروائية من بلوغ هذه الرؤية، هذا ما ستوضحه السطور المقبلة.
دائماً ما يبدأ السرد القصصي والروائي من الحاضر، أي في لحظته الآنية، كما يذهب تودوروف، أو زمن الكاتب حين يجلس الى منضدة الكتابة، ويبدأ سرده كما يرى جينيت، لكن ما إن تمر اللحظة الآنية للسرد، ويبدأ الكاتب روايته أو قصته حتى يبدأ الزمن الثاني، كما يحدد جينيت، وينطلق زمن التخييل والكتابة وفق تودوروف. وبين الزمنين، الأول والثاني، زمن الكاتب وزمن الكتابة، تجري عملية التزامن والتجاور بين الاثنين، وسرعان ما يستؤنف السياق التزامني للغة والوقائع بين النص والواقع، وتنطلق التجاورات بين الحلم والحقيقة.. والزمان والمكان.. وعناصر البيئة السردية كلها.
كان السارد القديم، يحدد موقعه التزامني بدقة حين يستهّل حكايته في «كان يا ما كان في قديم الزمان» ثم ينطلق بيسر الى زمن حكايته مهما توغل في العصور، وبذلك فإن الإمساك بلحظة السرد الآنية، هو انتقالة سلسة إلى لحظة الكتابة الثانية، يتم فيها استدعاء الوقائع الماضية من خلال لحظة الحاضر، دون إحداث فجوة أو قطيعة بين الزمنين. ما الذي حدث في لحظة السرد في رواية جمال العتابي «منازل العطراني»؟ كان السارد، ومنذ البدء قد عدّ لحظة السرد الآنية ـ زمن الكاتب – لحظة افتراضية من الممكن إهمالها فبدأ من هناك، من الوقائع الماضية دون أن يحدد السارد موقعه من الحاضر، وترك المجال لكي تنزلق لحظة الكتابة الثانية مباشرة إلى أكثر من نصف قرن ماض، وتبدأ الوقائع من هناك، لتتضمن مشكلة تزامنية جديدة ناشئة، سوف يعمل ويجهد من خلالها السرد إلى التقدم نحو المستقبل المضيّع، أو المخبأ منذ ذلك الحين للوصول إلى اللحظة الآنية والتعويض ضمنياً عن زمن الكاتب في نهاية الرواية. إن مكابدات «محمد الخلف» الشخصية الرئيسة في الرواية، كانت نتيجة حاسمة طرحتها الرواية، ليس في زمنها التي عايشت فيه الأحداث حسب، بل هي محصلة متراكمة ومتجددة لوعي الشخصية الحاضر والآني وموقفها النهائي من الوقائع التي عاشتها، وأجرت مراجعة عميقة لتفاصيلها العامة والخاصة، غير أن هذه المراجعة لم تتضح إلا في نهاية النصف الثاني من الرواية، لكنها تجلت في النصف الأول عبر أسلوبية الكتابة في المزج بين الخوف والحلم، في ما يُشبه الاستفاقة المستمرة من كابوس جاثم والتعبير عنه بانتقالات الحوار الداخلي لدى الشخصية الرئيسة والشخصيات الأخرى. ولعل الكابوس المستعاد لدى الخلف، يجعله يمزج بين الحلم والخوف، لتكون النهاية المؤجلة، أو محاذرة الوقوع في براثن الموت، ليس جبناً أو عبثاً قدر ما هو استغراق وبحث في كل شيء حي كان قد مات أو يكاد قبل أن نموت، مستلهما قول الماغوط، ليس المهم أن نموت، بل المهم ألا يموت فينا شيء ونحن أحياء، كان الخلف، يستعيد كابوسه في لحظته الآنية مثلما يستعيده الآن بعد مرور أكثر من نصف قرن.
وهكذا فان شخصية الخلف، هي شخصية تطورية، تصلح تماماً لكي تنمو من خلال البناء الروائي تحت مراقبة القارئ، وفي الوقت ذاته هي شخصية صانعة لنفسها منذ البدء ولها بصمتها الفردية في الوقائع التي عاشها الجميع، وهي أيضاً، تجمع بين الصورتين كشكل من التزامن بين السيرة والوعي المكتسب، أو الوعي المكتسب المتضمن في نمو السيرة، ولعل شخصية الابن خالد التي تمثل ملامحه هو، إلى جانب ما تتضمنه من صفات شخصية الأب، وكذلك الصور الكثيرة التي يلقي ظلالها الأب على أبنائه الآخرين، أنه توزيع جديد لكابوسه الدائم وحالة تكرارية وصيغة مصنعّة أخرى وحقيقية لشخصيته.
على هذا فإن رواية «منازل العطراني» هي شكل مترتب وناتج تلقائي من خلال سياق التزامن والتجاور، كما جسدته أسلوبية الرواية بين الوقائع وفضائها الاجتماعي والتاريخي، وصيغة للشخصية الصانعة لنفسها، التي تأخذ حيزها الفني من السرد، ومعطياتها العامة التي ساعدت على تصنيعها، فضلاً عن صيغة التزامن والتجاور بين زمن الكاتب وزمن الكتابة. كانت الوقائع في فضائها الاجتماعي، تمثل صعود يسار النخب الجماهيرية السياسية وتوهج الحلم الثوري الرومانسي الجمعي لها، فيما كانت تتزامن وتتجاور مع نمو سرطاني للبراعم الوحشية والزمر المتعطشة للدماء والحرب والغزو في عتبة السلطة، ولعله السياق التزامني نفسه الذي يؤشر لدوران الطاحونة الدموية في الحياة والميادين العامة، ويراكم في الوقت ذاته الخيبة والإخفاق لدى أكثر الأفراد والنخب، ويمنح صورة بدئية للمراجعة وصنع الذات والهوية، كما عند شخصية محمد الخلف. وإذا كانت شخصية الخلف، قد صنعت نفسها بالطريقة التي تجعلها حية فنياً ومتطابقة مع فعلها الروائي النامي كونه معلماً ورساماً مفصولاً وهارباً من السجن ومحكوماً غيابياً، فإن التعلّم والرسم الذي اكتسبته الشخصية لا يخلو من سياق تزامني مع معطيات تعليمه من الفضاء الاجتماعي الزراعي في المؤسسة المدنية آنذاك، التي درس فيها «دار المعلمين الريفية» بوصفها منبتاً للنخب الحديثة قبل ان يبتلعها العنف الجماهيري السلطوي.
إن كل شيء في رواية العطراني، يسعى إلى كسر ما للسياق التزامني غير إن أسلوبية اللغة والبناء الفني، يسعيان إلى كشفه واستعادته والتعبير عنه، وبالتالي تركيب السياق التزامني على نحو محتوى سردي جديد.
كاتب عراقي