توقفت صحيفة “ليمانيتي” الفرنسية عند موقف الرؤساء الفرنسيين من القضية الفلسطينية على مرّ العقود الستة الأخيرة، قائلة إنه من الجنرال ديغول إلى جاك شيراك، دعمت فرنسا بقوة حل الدولتين. غير أن الأمور تغيرت في العقدين الأخيرين، حيث بدا الرؤساء المتعاقبون وكأنهم يتخلون تدريجياً عن هذه العقيدة التاريخية، دون التأكيد عليها.
رسمياً، تضيف الصحيفة الفرنسية، لم يتغير شيء منذ عقود.. فمن جورج بومبيدو، إلى إيمانويل ماكرون، مروراً بفرانسوا ميتران وجاك شيراك فرانسوا أولاند، كانت فرنسا تدعم باستمرار “المبدأ الديغولي” بشأن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني: حل الدولتين، كما نصّت على ذلك خطة التقسيم للأمم المتحدة، والتي تم التصويت عليها عام 1947.
ولكن على أرض الواقع، لم تعد السياسة الفرنسية على حالها منذ أقل من عشرين عاماً بقليل. ويشكل رئيس الجمهورية الحالي إيمانويل ماكرون جزءاً من استمرارية نقطة التحول الصامتة هذه، التي بدأها الرئيس الأسبق جاك شيراك في نهاية ولايته الثانية، وأدامها خليفته نيكولا ساركوزي، ثم فرانسوا أولاند، تتابع “ليمانيتي”.
وفي بيان صحافي رداً على هجوم “حماس”، الذي وقعه إيمانويل ماكرون، مع زعماء الحكومات الأمريكية والبريطانية والإيطالية والألمانية، لم يرد أي ذكر للمكانة التاريخية لفرنسا، التي ميزتها عن “العالم الغربي”، إذ يمكننا أن نقرأ فقط أن الدول الخمس تدعم “تدابير متساوية للعدالة والحرية للإسرائيليين والفلسطينيين”، وتعترف “بالتطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني”، دون تسميتها، أو إضافة كلمة “السلام”، تُشير الصحيفة الفرنسية.
وفي كلمته أمام الجمعية الوطنية الفرنسية، ذكّر الرئيس الشيوعي للكتلة البرلمانية “لليسار الديمقراطي”، أندريه شاسين، رئيسة الوزراء إليزابيث بورن بالموقف التاريخي لفرنسا حيال القضية الفلسطينية: “يجب على فرنسا أن تحمل شعلة السلام، التي تخلت عنها لسنوات عديدة، وأن تكون مبادرة في مجلس الأمن الدولي، لوضع حد لسياسة الاحتلال، وتكرّس نفسها للبحث عن حل الدولتين المتعايشتين”، تتابع “ليمانيتي”.
نقطة تحوّل ديغول
في نوفمبر 1947، تواصل الصحيفة الفرنسية، صوّتت فرنسا لصالح قرار الأمم المتحدة رقم 181 بشأن تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة عربية والأخرى يهودية. وبعد ستة أشهر، أعلن ديفيد بن غوريون استقلال إسرائيل، الذي اعترفت به الحكومة الفرنسية بعد عام. وكانت هذه بداية تعاون مكثف بين البلدين، ولا سيّما لتزويد تل أبيب بالأسلحة النووية، أو أيضاً في عام 1956، خلال أزمة قناة السويس، التي أممتها مصر.
وأشارت “ليمانيتي” إلى مقاله المحلل السياسي باسكال بونيفاس، في عموده على موقع يوتيوب، بأن “ فرنسا ترى إسرائيل شريكًا لمحاربة القومية العربية”. فوصول شارل ديغول إلى السلطة، في عام 1958، لم يغير شيئاً حتى عام 1967، وهو عام التحول الحقيقي في السياسة الفرنسية.. في الخامس من يونيو، قامت إسرائيل، التي شعرت بالتهديد من التدريبات العسكرية في صحراء سيناء، بمهاجمة مصر التي كانت قد أغلقت للتو مضيق تيران أمام القوارب الإسرائيلية. وعلّقَ ديغول مبيعات الأسلحة لإسرائيل التي يعتبرها المعتدي.
بعد ذلك، “قام بربط العلاقات الثنائية بين البلدين بالوضع في الأراضي المحتلة، يوضح آلان غريش، مدير موقع “أوريان21 ”. وهي نقطة البداية لعدم الانحياز الفرنسي للمواقف الأمريكية خلال هذا الصراع.
جيسكار يعترف بـ “م ت ب”، وميتران يرحب بياسر عرفات
وفي وقت لاحق، اتبع بومبيدو نفس المبدأ. بدوره، اعترف جيسكار ديستان بمنظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها المحاور الرئيسي، ووقع إعلان البندقية في عام 1980، الذي دعا إلى إنشاء دولة فلسطينية. وكرر ميتران نفس الطلب أمام الكنيست الإسرائيلي، ورحّب بزيارة ياسر عرفات إلى فرنسا. كان جاك شيراك آخر رئيس دولة فرنسي ينتهج سياسة نشطة لحل الدولتين، توضح “ليمانيتي”.
وحدثت نقطة تحول جديدة، غير رسمية هذه المرة، في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، خلال فترة حكم جاك شيراك، “فمع اندلاع الحرب ضد الإرهاب، أثبتت إسرائيل نفسها كحليف، مع فكرة أننا سنكون غربيين في مواجهة الهمجية”، كما يحلل آلان غريش.
ومن دون الانفصال رسمياً عن العقيدة الديغولية، استعرض نيكولا ساركوزي قربه من إسرائيل، معتقداً أنه قادر على التأثير على حكومة بنيامين نتنياهو. لكنه فشل، كما توضح “ليمانيتي”.. وبعده، تراجع خلفه فرانسوا هولاند، الذي تراجع فوراً في الإليزيه عن وعده بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، توضح الصحيفة الفرنسية.
وتعدّ إحدى الضربات الأخيرة للعقيدة الفرنسية تلك التي وجهها السفير الفرنسي في تل أبيب، إريك دانون، في عام 2020، حين قال: “يمكننا قبول أي حل إذا اتفق عليه الفلسطينيون والإسرائيليون”. ومرّ تصريحه مرور الكرام، دون أي تصحيح أو “تأطير” من إيمانويل ماكرون، الذي ذكّر قبل ذلك، في عام 2018، بأنه “لا يوجد حل آخر سوى حل الدولتين”.