دفاعا عن حداثة الكتابة: صلاح بوسريف يرافع عن مفهومه للشعر وما يكونه!

2023-05-04

عبداللطيف الوراري

ورشة مضيئة

كتب بعض الشعراء سيرا ذاتية وثقافية ضمّنوها تحولات مسارهم الشعري ورؤاهم الخاصة للذات وللعالم وأشكال حضورهم فيه، وفق كيفيات وجماليات نوعية تتوزع بين السردي والشعري، وبين التأملي- النقدي والإبداعي. وكتب آخرون بيانات ومقدّمات تنظيرية لدواوينهم الشعري،ة تعكس تصوراتهم للكتابة والطريقة الجديدة التي تختطُّها سبل شعرهم. مثلما نجد طائفة أخرى من النصوص الرسائلية والحوارية والبيوغرافية المتنوعة، التي تعبرها عناصر وإشارات سيرذاتية تخصّ سيرة أنا وتطور تجربته الشعرية في آن.

وقد كشفت هذه السير والنصوص المختلفة عن المكانة المتميزة التي أصبح يحتلها الوعي التنظيري والجمالي عند شعراء الحداثة العربية وقضاياها الناشئة باستمرار، في إطار ما ساقوه من حدوسات وتأملات نظرية وآراء سجالية خاصة، مع اختلافٍ بيّنٍ بينهم في لغة هذا الخطاب وأطره وخلفيّاته المعرفية. وعدا ما حملته من أفكار ومواقف متباينة ومتدافعة حول مفاهيم الشعر الحديث أو المعاصر، كان يحمل كثيرٌ منها إجابات على هواجس الذات الشاعرة وهوية الممارسة الشعرية ولغتها وحداثتها، فيما هي تراهن على مراجعاتٍ جماليّة بقدر ما تعكس مدى التوتّر بين الممارسة والنظرية، بين الأنا والآخر، بين الذاتية والموضوعية في المجال الشعري. ومن ثمّة، لم تكن مثل هذه الآراء، العلنية والمضمرة، معلومات عامة سيقت كيفما اتّفق، بل هي تقع في صميم التجربة الشعرية التي احتضنت مشاريع التحديث الشعري مشرقا ومغربا. وإنه لمن المفيد أن يقتحم القراء «ورشة الشاعر» من هذه الناحية، ويقترب منها لفهم الظروف والحيثيات التي تحيط بممارسته الإبداعية وطقوس كتابتها وأشكال صوغها الفني ومنطق تجاوزها الذاتي؛ ومثل ذلك ـ كما يقول فيليب لوجون- هو «بمثابة هدية أتاحها بعض الشعراء لقرائهم».

سيرة في الشعر وعبره

في المجال المغربي، نجد عددا من هذه السير الشعرية الثقافية لشعراء أساسيين طبعوا الشعر الحديث أو المعاصر بتجاربهم الكتابية، التي مثلت إضافات نوعية ووسعت ما فيه اعتبار؛ فقد كتب حسن الغرفي «هكذا تكلم الشاعر.. سيرة شعرية ثقافية للشاعر محمد السرغيني» وكتب محمد بنيس «كتابة المحو» (1994) وكتب محمد بنطلحة «الجسر والهاوية» (2009) وكتب رشيد المومني «إيقاعات الكائن» (2016).

في «زوقة الشعر: ما أنا وما أكون» (دار مقاربات للنشر، 2022) يأخذنا الشاعر صلاح بوسريف إلى سيرته التي نعتها بأنها ـ كما جاء على غلاف الكتاب – سيرة شعرية ثقافية، أي لا يعني بها سيرة حياة، أو سيرة تستعيد أحداثا ولّتْ، وإنما هي تصب في معنى «السيرة النظرية – الجمالية» التي يكون فيها الشعر هو موضوع الذات بمعناها الجمالي؛ الذات الكاتبة وهي تجد نفسها أمام تجربة حدية عليها أن تتعلم منها لترتفع إليها حالا ومآلا، وإلا انتهى كل شيء أو استغرقته العادة. يُكني الشاعر عن هذه التجربة، تجربة الشعر اقترابا ونظرا، بالماء بما يفرضه من تعلم واندفاع ومقاومة ورغبة في الخلاص. وبالنتيجة، يؤكد على المعرفة الشعرية التي لا غنى عنها لتجاوز مفهوم الأسلاف للممارسة الشعرية، ولإحداث التجديد في «آلة» الشعر بما هي «آلة» إبحار وخوض في الماء.

وإذا أردنا تجنيس العمل قلنا إنها سيرة تكوينية في الشعر وعبره، وقوام هذه السيرة ثلاثة أقانيم أساسية لا غنى عنها في مثل هذا المشروع السيرذاتي في توتره وغناه وطبيعة القضايا الجمالية التي يطرحها: المعرفة (نظريات، آراء وسجالات، تأملات..) والذات (تجارب، مواقف، تمثلات ورؤى..) والكتابة (جماليات، تقنيات، أبنية وشرائط..) وهي أقانيم تبادلية لا يمكن الفصل بينها من حيث القيمة والاشتغال. في التصدير الذي سماه صلاح بوسريف «ما قبل الإبحار» يبرز مقصديّته من العمل الذي يُجنّسه ويكشف ما ينطوي عليه عنوانه من إيحاء رمزي ذي اعتبار: «تشعبت المعارف والعلوم، اليوم، وتشابكت، وأصبح الشعر غير ما كان عليه زمن الماضين من أسلافنا الشعراء والنقاد.

لم يعد ممكنا أن ندخل الماء بالسباحة فقط، بل إن مساحات الماء نفسه اتسعت، وأفق الزرقة لم يعد متاحا بما كانت عليه الرؤية نفسها من قبل» وذلك على نحو ما يشبه تعاقدا أو شهادة يدلي بها مع قرائه المفترضين ويشكل من خلالها توقعاتهم بصورة ما. لكن الأهمّ أن الكاتب يربط قضايا العمل المعرفية مرجعيّا بما عرفته حياته من تقلبات وترحال (فرنسا، بلجيكا، بغداد) وبتطور مساره الفكري ومصادره وخلفياته الجمالية وقراءاته المتنوعة من قديم الثقافة وحديثها، وإلا لكان الكتاب تجميعا لمقالات أو نصوص تنتظمها إشكالية محددة من فصل إلى آخر. فهذه المقصدية ترتبط في الأصل بوعي نظري – جمالي يصدر عنه الكاتب وهو في عقده السادس، بعد أربعة عقود في صحبة الشعر والاشتباك مع أسئلته؛ ولهذا تصطبغ السيرة الشعرية بمعاني التعلم والإصغاء من جهة، والنقد والسجال من جهة أخرى، وبالتالي يعطي الشهادة المدلى بها صفة الخطاب السيري – التأملي الذي يتقاطع مع آراء تمت في تاريخ الشعر الحديث، أو ما تزال لم تفقد راهنيتها في التحليل المعاصر.

يتدفق العمل في خمسة فصول، وكل فصل منها يشتمل على نصوص وشذرات تتبع، جنيالوجيّا، تطور وعيه الشعري ممارسة ونظرا، وتبرر انحيازه إلى «حداثة الكتابة» بديلا عن القصيدة بمعناها الشفاهي. ومثل هذا التطور الذي يهمّ مجال الأفكار، لا يخضع بالضرورة لترتيب كرونولوجي صارم، كما يحدث في معظم السير الذاتية ذات الطابع المرجعي، بقدر ما هو يمس عصب الوعي منذ تفتُّحه في البدايات إلى ازدياد توتُّره في علاقاته البلورية بأقانيم الكتابة الشعرية: رعشات الشعر، ومكابدة الكتابة، وشعرية الانتهاك، وغوايات الحبر، ثم خارج السياق. وكانت تتخلل هذه الفصول وقفات تأملية شذرية تحت عناوين موحية: «إضاءة، تعتيم، استطراد..) وذات مقاصد تداولية – حجاجية تعكس حوار الشاعر مع أصوات نقدية من قديم الثقافة الشعرية وحديثها (المعري، ابن رشيق، بورخيس، إليوت، أدونيس..) وتعمق فهم القارئ لمجمل القضايا التي انشغل بها الكاتب وكانت لها مستتبعاتها النظرية والمعرفية داخل الكتاب (الوزن والإيقاع، القيمة الشعرية، حداثة الشعر، العمل الشعري، التعتيم الأجناسي، الشعر والفكر، التراث والحداثة) والتي تنعطف في المحصلة إلى تصوره الأساسي والمفصلي الذي يتعلق بـ»حداثة الكتابة» وعيا وأفقا. وفي هذا المنظور، تتأثر اللغة بهذا الالتباس الحواري المتعدد بين صوت الشاعر وصوت الناقد، فتبدو لغة داخل لغة على نحو يُخرج النظام السردي لهذه السيرة من سمته الحدثي المباشر، ويطبعه بالتنوع والإنتاجية.

منذ البدايات كان الشعر ـ عنده – بمثابة نداء داخلي غامض يبثُّ حمياه في الجسد ويفعم الروح بعناصر الدهشة والحنين والفرح، بل إنّ اكتشاف الشعر هو اكتشاف النفس بما تنغلق عليه من أسرار، واكتشاف وجودها الذي يتحدد مداه بما يحدثه العالم الطبيعي فيه من خيال وموسيقى وغناء. وكان ميله في الأول إلى الرسم نكاية في مقررات الفصل الدراسي التي لم يسايرها، قبل أن يطلقه لظرف قاهر ويتخذ «الرسم بالكلمات» بديلا عنه.

من القصيدة إلى الكتابة

منذ البدايات كان الشعر ـ عنده – بمثابة نداء داخلي غامض يبثُّ حمياه في الجسد ويفعم الروح بعناصر الدهشة والحنين والفرح، بل إنّ اكتشاف الشعر هو اكتشاف النفس بما تنغلق عليه من أسرار، واكتشاف وجودها الذي يتحدد مداه بما يحدثه العالم الطبيعي فيه من خيال وموسيقى وغناء. وكان ميله في الأول إلى الرسم نكاية في مقررات الفصل الدراسي التي لم يسايرها، قبل أن يطلقه لظرف قاهر ويتخذ «الرسم بالكلمات» بديلا عنه. وقد ارتبط الوعي الناشئ لدى الشاعر بشعر الماضين، كما طالع كتب النقاد القدامى من أجل تعرف خصوصية الشعر العربي وفهمه على صعد البناء واللغة والإيقاع ضمن مفهوم «القصيدة» الذي استحوذ على جمالياته الذي لا يُعرف إلا بها وعبرها. ومال إلى أبي تمام الذي اكتشف عنده نزوعا كتابيّا غير علاقات اللغة في الشعر وسننها الجمالي من حيث صورها ومجازاتها، وهو ما كان يمثل في وقته انتهاكا واختراقا لـ»عمود الشعر» الذي انتصر له تلميذه البحتري، ومن ثمة حداثة في الشعر على غير مثال سابق. وجد عنتا ومشقّة في قراءة شعر أبي تمام لطبيعة بنيته اللغوية التي تتخفف من مؤونة النسق الإنشادي، إلا أن وسطاء النقد الحديث (طه حسين، أدونيس، حسين الواد..) أفادوه في الاقتراب من تجربته ودلّوه عليها. ثم اتصل بالرومانسيين العرب الذين جمعوا بين النظرية والممارسة على نحو ساعده في فهم طبيعة التجارب، وفي التأسيس النظري لها، ثم في تبرير طبيعة الاختراقات التي كان يصدر عنها هؤلاء الشعراء؛ من أمثال: مطران، الشابي، أحمد زكي أبو شادي، ممن دافعوا عن التجديد وحرية الخلق والإبداع، وانفتحوا على تجارب غيرهم من الأسلاف القدامى والأوروبيين على حد سواء. مثلما فتحت رومانسية جبران خليل جبران عينيه على كتابة جديدة قوامها السرد والجنوح إلى الموعظة والبعد الرسولي، فيما هي كانت تتحرر من سلطة الشكل ومن ثنائية الشعر والنثر، وتنشئ معاني وصورا مبتكرة وقادرة لتحمل رؤى الشاعر التي اتسمت ببعدها الإنساني.

في بغداد التي هاجر إليها مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، انشغل صلاح بوسريف داخل حياته الجامعية بدراسة التاريخ القديم التي قاده إلى استخلاص سياقات ومداخل لفهم الأدب، واستوعب علمي العروض والقافية، وانفتح على كتابات المتصوفة (القشيري، الرومي، العطار، حافظ الشيرازي، ابن عربي). وقد ساهم كل ذلك في توسيع رؤيته الجمالية للشعر لغة وبناء، والوعي بأن البنية الشعرية بوسعها أن تحتضن فسيفاء معارف ونصوص متنوعة؛ أسطورية، ودينية، وأخبارية، وصوفية، وفلسفية ومسرحية. وبالتالي، الاهتداء إلى ما تكون به الكتابة أفقا جديدا ضمن تجارب الشعر المعاصر وخارج هيمنة «القصيدة» وهيمنة الغنائية والصوت والإنشاد. وفي هذا السياق، يعتبر أن ما كان يقرؤه من تجارب «الشعر الحر» (نزار قباني، السياب، البياتي، شاذل طاقة، نازك الملائكة..) لم يكن في نظره سوى إعادة توزيع لشكل قديم: «لم يبدُ لي أن هناك «ثورة» أو «انقلابا» أو «قطعا» مع «القصيدة» بل ثمة «مساومة» فقط، مع الشكل القديم، وهي البنية الشفاهية الإنشادية، التي يهيمن فيها الصوت، بقيت قائمة لم تتغير».

الدراسات الشعرية

لكن الدراسات التي كانت تواكب حركة الشعر الحر؛ بينها «قضايا الشعر المعاصر» لنازك الملائكة (1962) و»قضية الشعر الجديد» لمحمد النويهي (1964) و»الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية» (1966) و»حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر» لكمال خير بك (1982) قد ساعدته في اكتشاف مساحات جديدة داخل الشكل الجديد والانتباه لأوضاع الدال الشعري عبره، وفي التعرف على شعراء آخرين، بل أتاحت له التعرف على مفاهيم وأدوات قادته إلى ما في النصوص الشعرية الجديدة من دوالّ لا يمكن قراءة الشعر المعاصر دون اختراقها أو الوعي بسياقاتها الفنية والجمالية؛ وفي طليعتها معمارية البناء التي تطورت في الاتجاه الدرامي وتركت أثرها الواضح على أوضاع الدالّ الشعري إلى حد «ينفي الصدفة والاعتباط في كتابة الشعر». مثلما ساعده لقاؤه بالشعر الفرنسي (لوتريامون، رامبو، بودلير، مالارميه، بونج، ميشو، بيرس) في الوعي بأن الشعر هو بداية دائمة وليس تكرارا واستعادة، فكل كتابة هي في الأصل إضافة وطريقة مخصوصة في النظر إلى الطبيعة والأشياء.

في مقابل ما كان يمارسه المشرق الشعري والثقافي من سلطة على وعيه وذائقته، لم يكن صلاح بوسريف يعرف شيئا عن المغرب شعرا وثقافة، بسبب السياق المحافظ الذي يغلب عليه التقليد، وكان المنهاج الدراسي يجري في هذا السياق تعليما وتلقينا، ومن ثم يرفض التجديد. كان يشعر بالاغتراب، إلا أن المجلات والملاحق الثقافية التي انتظمت في الصدور عرفته على بعض أدباء المغرب وشعرائه من جيلي الستينيات والسبعينيات، وأتاحت له اللقاءات والمناقشات الثقافية في دور الشباب بمدينة الدار البيضاء، مع بعض أفراد جيل الثمانينيات، أن يشقّ مساره الشعري وسط احتقان حزبي وأيديولوجي. فالزمن المغربي في تلك الفترة «كان زمن مشاحنات وتطاحنات سياسية قاسية، بين القصر واليسار» وكان ذلك يترك أثره على الصحف والمجلات، وعلى الشعر الذي كان أسير «النبرة الاحتجاجية» و»الهتاف الأيديولوجي» ولم تحدث الانعطافة في الشعر المعاصر إلا في تسعينيات القرن الماضي.

وقد سعى الشاعر وبعض أفراد جيله إلى «البحث عن الذات خارج أي انتماء أو اصطفاف» وإلى توسيع الأفق الجمالي للشعر المغربي المعاصر. وجسدت باكورته الشعرية «فاكهة الليل» (1994) التي نشرها تحت إلحاح الشاعر الراحل عبد الله راجع، طموح مسار شعري سيتطوّرُ إلى أعمال شعرية ذات نفس ملحمي- عرفاني وبناء معماري مركب، تعكس في مجموعها شرط الكتابة كما آمن بها ودافع عنها في دراساته النقدية الموازية.

كاتب مغربي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي