«الشيطان يعظ» في المدينة الميتة: الواقع داخل الأسطورة

2023-05-01

رند الأسود

عشرات الروايات والقصص الأدبية خطها نهر مصر الخالد نجيب محفوظ صاحب الثلاثية الشهيرة «بين القصرين، قصر الشوق، السكرية» الذي ما زالت أعماله إلى يومنا هذا مادة دسمة للدراما العربية.

أثرَ نتاج صاحب نوبل بكل القراء وكان للحارة الشعبية وللناس البسطاء دور أساسي فيه، بدأ محفوظ حياته الأدبية مترجما فكان أول عمل له «مصر القديمة» في عام 1932، ثم توالت مسيرته الإبداعية في كتابة الروايات والقصص القصيرة، وكان للمسرح نصيب ضئيل من أعمال صاحب «زقاق المدق»، فقد كتب 8 مسرحيات آخرها كانت «الشيطان يعظ».

بدايةً فإن مسرحية «الشيطان يعظ» تشكل اختلافاً كلياً عن باقي نتاج محفوظ في المسرح، فهي ذات شخوص محددة واسماؤها معروفة ومستمدة من التاريخ العربي، ومن الجدير بالذكر أن اغلب النقاد الذين عاصروا أيام صاحب «السراب» شهدوا تأثره بمسرحية «نهاية اللعبة» للكاتب الأيرلندي صاموئيل بيكيت، فقد أعجب محفوظ بمسرح العبث ومفهوم العبث هنا هو موقف الكاتب المبدع مما يجده في الوجود من عبث وليس كتابة العبث ذاته فنلاحظ في مسرحياته الست التي سبقت «الجبل» و»الشيطان يعظ» أن أبطالها لم يحملوا أسماء محددة وكذلك الحديث الدائم عن شيء مجهول وهو ما اتبعه بيكيت في مسرحية في «انتظار غودو». أما «الشيطان يعظ» فهي آخر أعماله المسرحية كتبها في عام 1979، ومستوحاة من قصة مدينة النحاس في ألف ليلة وليلة.

زمن الأحداث في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، الذي يرسل مندوبه الأمير طالب بن سهل إلى أمير المغرب موسى بن النصير ليبلغه برغبة الخليفة في الحصول على قمقم من قماقم العفاريت العصاة الموجودة في صحراء المغرب ليضعها في خدمة الإسلام والمسلمين.

قوة لا حدود لها

ماذا يفعل الإنسان عندما يمتلك قوة لا حدود لها؟ هل يستخدمها في الخير أم في تنفيذ جميع رغباته وأهوائه والقضاء على كل من يقف في طريقه وقد يصل به الحال حتى للكفر. في مدينة النحاس يقدم لنا عفريت الملكة ترمزين الهالكة من عشرين ألف سنة مضت، موعظة.. وقع قمقمي بين يدي الملكة ضمن صيد لها أصابه صياد القصر، ولمست يدها مفتاح القمقم وهي تقلبه فخرجت لها، وسرعان ما أدركت مدى القوة التي أذعنت لها، ثم وعدتني بإطلاق سراحي إذا حققت لها ما تشاء وإذا بها تتمادى في غيها حتى الكفر، ولما كنت عفريتاً مؤمنا بالله على الرغم من معصيتي، فقد غضبت وأنزلت بها الميتة المسحورة التي تبقيها على حالها لا تتغير عبرة للمعتبرين، نابذاً وعدها لي بالتحرر، هكذا ماتت المدينة ورجعت رغم إرادتي إلى البحيرة.

للمسرحية إسقاطات سياسية يوظف فيها محفوظ الواقع داخل الأسطورة، فحتى الشيطان نفسه يعظ عندما تكون هناك قوة لا حدود لها في يد الحاكم، فقد وصل الحال بالملكة ترمزين إلى أن تطلب من شعبها عبادتها بدلاً من الله الواحد الأحد لينزل بها غضب عفريتها العاصي. وعندما يزداد إصرار موسى بن النصير وطالب بن سهل ودليلهم في الصحراء المغربية الشيخ عبد الصمد على حمل العفريت إلى الخليفة عبد الملك بن مروان، يعيد الشيطان على مرأى ومسمع منهم آخر أيام مدينة النحاس قبل هلاكها منذ عشرين ألف سنة هناك، حيث كثر الفساد وازدادت طبقة النبلاء والتجار ثراءً فاحشاً واشتدَ الشعب فقراً وكثر الظلم بفضل تسخير الملكة لقوة عفريتها ليصل بها الأمر في النهاية إلى حد حملهم على عبادتها فينزل العفريت غضبه بها وبمدينتها فتموت المدينة المسحورة ويموت كل شيء في داخلها. ويكثر تكرار ذكر الموت في المسرحية ولهذا عدة تفسيرات فمهما تجبر الإنسان، نهايته الحتمية الموت، أموات لا يخطر الموت في بالهم، ومهما يملك المرء من قوة وعز وجاه قد يكون الموت أقرب إليه من كل شيء وأرى الموت أقرب إليكم من أجسادكم.

تلقى ترمزين وشعبها مصيرها المحتوم بعد أن بعد دفعها غرورها إلى التطاول على الذات الإلهية، وبعد أن تصبح هي ومدينتها مجرد أجساد خالية من الحياة وفيها الكثير من العِبر يقرر موسى بن النصير وعبد الصمد وطالب بن سهل إطلاق سراح العفريت وتركه بدلا من حمله إلى الخليفة، خوفاً على الرعية من تجبر الراعي قل لمولاك: من يحكم بالإيمان فلا حاجة به إلى الشيطان.

كاتبة عراقية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي