"لن نقدّم القهوة لسبينوزا" لـ آليتشه كابالي: استعداداتٌ داخلية للرحيل

2023-04-27

سومر شحادة

رواية "لن نقدّم القهوة لسبينوزا" للكاتبة وعازفة التشيلو الإيطالية آليتشه كابالي، روايةٌ تجمع الفلسفة بالحياة، لتصنع بشخصياتها القليلة فلسفتَها الخاصّة؛ وهي فلسفة تُثري القارئ، وتقترح عليه ما هو جوهري في الحياة. حتّى أنّ شخصياتها ليست قليلة، بقدر ما هي شخصيات صنعها البروفيسور الكفيف، الذي أعاد بأفكاره وسلوكه صياغة عالَم الآخرين. الرواية الصادرة ترجمتُها العربية عن "دار الكرمة" (2022)، وأسوةً بالصورة المكرَّسة عن فاقد البصر، هي عن أستاذ فلسفة يُضيف بصيرته على الأشياء، ويقرأ الوجود من حوله بحدسه.

الرواية، التي نقلتها عن الإيطالية أماني فوزي حبشي، مثالٌ لتلك الكُتب التي تُرافق القارئ. وما جعلها روايةً تشارك القارئ وجدانه، أنَّها عن القراءة، أو عمّا تُضيفه القراءة للإنسان؛ باستدعائها من كُتب الآخرين ومن فلسفاتهم ما يساعد الكفيف على بناء صِلاتٍ جديدة مع ذاكرته. فهو لم يكن كفيفاً منذ وُلد، وإنّما في مرحلة من حياته بدأ يفقد بصره تدريجياً. بانتهاء الكتاب، يحدس القارئ بأنّ ما أضفى على النصّ خصوصيته ليست العبارات المقتبسة، وإنّما الرواية نفسها، بما تقترحه، وهي تغرف من حياة أحدهم، وتضيفه إلى حياة الآخر. وهي سيرة هدم للبروفيسور، وبناء لجليسته ماريا، التي تبدأ العمل برفقته في الصفحات الأُولى، مع مخاوف من أن تُفصَل من العمل، ومع تردُّدها حيال قدرتها على أن تحلّ مكان عينَي الرجل. لكنّها تبقى برفقته حتّى النهاية، حتّى نهاية حياة البروفيسور.

بدا أنّ أستاذ الفلسفة المتقاعد جاء إلى حياتها كي يُنقذها، لا العكس. إذ سنعرف أنّ ماريا تعيش زواجاً فاشلاً، وأنّ زوجها صعب المعشر، اتّكالي، وغارق في الديون. على النقيض، تجد الحياة في شقّة البروفيسور مع رجل أمضى نصف حياته الأوّل، قبل أن يفقد بصره، في جمع الكُتب، وأمضى نصف حياته الثاني، بعد أن فقد بصره، في التخلّي عن الكتب. ليس تخلّياً عمّا هو زائد، بل تفكيكٌ لمعنى وجوده. كما لو أنّ ما يصنع وجود البشر الحقيقي، والحيّز الذي يشغلونه في حياة الآخرين، ليس وجودهم المادي، بل وجودهم غير الملموس. وبدا أنّ البروفيسور، وهو يهدي كتبه بالتدريج، كأنّما يترك شيئاً منه في حياة الآخرين.

لكنّنا لا نعرف حكاية اختفاء الكتب بصورة مباشرة، وإنّما نحدس بها، مثلنا مثل ماريا. ونشعر معها أنّ عالم البروفيسور ينقص يوماً بعد آخر. في النهاية تُخبرنا الكاتبة أنّ البروفيسور يُهدي كتبه لأصدقائه. ولكن قبل ذلك، يحدس القارئ بما يحصل، لأنّ الرواية سرعان ما تنقل إليه الشعور بأنّها عن إنسان يرحل في الآخرين، لا عنهم. ويغيّرهم بأن يساعدهم على الاقتراب من حقيقتهم، لا بأن يفرض عليهم أسلوب عيشه. إنّه رجل محبوب، ولا يعرف عمق محبّة الآخرين له.

نعرف أنّها رحلة في الآخرين، لا عنهم. ليس فقط لأنّ البروفيسور يهدي كتبه تدريجياً. فالسرد فيها، مسارٌ من تغيير البشر لبعضهم، ومسارٌ في تغيير القراءة للبشر. وبهذا، فالسرد تفكيكٌ لعلاقاتٍ، ورصدٌ لنموّ أُخرى. وهو سردٌ هادئ، يخلو من الانفعال. باستثناء اللحظة التي تُقرّر فيها ماريا ترك منزل زوجها. ليس مفاجئاً، بعد هذا التقديم، أن تكون اللحظة التي تقرّر فيها المغادرة هي تلك التي يستخفّ فيها بما تقرأه. إذ يمزّق الزوج هدية البروفيسور ــ كتيّب لباسكال ــ وتشعر إزاء سلوك الزوج معها وكأنّه غير معني بشعورها، أو بالأحرى أنّه يزدريها. الرواية عن الهشاشة أساساً، هشاشة البشر، وعن ميلهم للعزلة.

مع تمزيق كتيّب باسكال، تَمزّق شيءٌ داخل ماريا، حتّى أنّها سقطت وهي تحاول أن تحمي ما بقي من الكتيّب، ثمَّ تغادر المنزل وتسكن لدى البروفيسور، الذي يساعدها كي تجد إقامة عن طريق أحد أصدقائه، وهو مَن يُدعى "السجين". سجين زوجته، سجين تعاليمها. لكنّ السجين، في النهاية، هو مَن حقّق للجليسة حرّيتها. فالبشر مجرَّد أدوار في حياة بعضهم. أمّا عالم البروفيسور الذي كانت الكتب تفارقه، فقد استمرّت الكائنات بالدخول إليه، الطيور والنمل والنباتات. وقبل ذلك، البشر كانوا يرتحلون في عالمه. إمّا بسبب تفاوت إدراكه، أو بسبب موتهم، كما موت الزوجة، وقرار الابنة بأن تعتزل الحياة في دير. وكان البروفيسور يقرأ بمعونة ماريا، كي يستحضر أفكار فلاسفة عديدين. أفكارٌ أسّست حياته، وحتّى مادّة جسده، إلى درجة أنَّ طبيبه وصف له كتاباً، وكأنّه دواء للتشافي من الالتهاب. إنّه تداوٍ بالكتب. وكأنّما تردّي الحياة الداخلية للبشر هو ما يعطب أبدانهم.

قبل أن يموت البروفيسور، يعترف أنّه أنجز مشروعاً كبيراً. ومشروعه، هو فاعليته في حياة الآخرين الداخلية. بالنسبة إلى الآخرين، كان وداعه وداعاً لمَن رأى ما لا يُرى. وآخر من كان يزوره هو السجين، يقول البروفيسور؛ لأنّه يعرف معنى السجن. إنْ كان السجين محكوماً بالزوجة، فالبروفيسور مسجونٌ بالحياة نفسها. وفي مكان في نهاية الرواية، التي هي نهايته أيضاً، يعترف اعترافاً غامضاً أنّه لربما كان سبباً في موت زوجته. وكأنّما كان مسجوناً بالآخرين بالدرجة نفسها.

الحكاية التي بدأت مع شعور الجليسة ماريا فيتوريا بالثقل والصعوبة في التعامل مع البروفيسور، انتهت مع عدم قبولها الانفصال عنه، ومع شعورها بالألم لرؤيتها المكتبة تفرغ من الكتب. لا ننسى أن البروفيسور ساعدها في الوصول إلى أنجيلو، حبّها جديد، فالحبّ هو ملاكها. أمّا متن النص الذي يقع في 344 صفحة، فهو مجموعة كبيرة من الاستعدادات الداخلية للرحيل. وقد وجد البروفيسور في عبارة "فات الأوان" التعبير الأمثل لحياته. نستنتج من خلوّ المكتبة التدريجي، أنَّ البروفيسور كان يخطّط للاختفاء بطريقة عبّرت عنها ماريا، وكأنّما رحيله ترتيبٌ في هجرة الموضوعات. لكن يسأل القارئ، وسط الحياة الغنية في الرواية الغنية، عن فوات الأوان؛ وكأنّما ما إنْ يبدأ وعي الإنسان بالوجود، حتّى يُدرك اغترابه. صحيحٌ أنّ البروفيسور يصوّر الوجود للآخرين على أنّه هِبة. لكنّه، بالنسبة إليه، لم يكن سوى خطيئة. وهذا استنتاجٌ لا تقوله الرواية صراحةً.

روائي من سورية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي