جون طولان.. ما الجديد في تأريخه للإسلام؟

2023-03-28

نجم الدين خلف الله

ما الذي يمكن أن يضيفه كتابٌ جديد عن تاريخ الإسلام بعد عشرات المُؤلّفات التي صِيغت في لُغات شتّى عن الموضوع؟ وهل جرى مؤخّراً اكتشاف مُدوّنات مجهولة تسوّغ مثل هذه المراجعة؟ أم هل اجتُرحت مقاربة منهجية مُستحدثة تبرّر استعادة الماضي؟ تنبني هذه الأسئلة على فرضيّة أنّ "الجديد" يختلف عن السائد وقد يشكّل قطيعة معرفية معه، وهي فرضيّة سنقيّمها عبر تقديم التأليف الأخير للمؤرّخ الأميركي الفرنسي، جون طولان (John Tolan)، الموسوم بـ "تاريخ جديد للإسلام: من القرن السابع إلى القرن الحادي والعشرين"، والذي صدر حديثاً عن "دار تالانديي" في باريس.

يقسّم طولان (1959) كتابه إلى ثلاثة أقسام، حيث عالج في القسم الأوّل منه إسلام البدايات حتى القرن الرابع للهجرة/ العاشر للميلاد، وما قام عليه من أهمّية مركزيّة للقرآن والحديث، كما تناول نشأة الدولة الأمويّة ثم العبّاسيّة والأُسَر التي حَكمت الخلافة خلال الألفية الأُولى. وفي القسم الثاني، تطرّق إلى مرحلة التوسّع الإمبراطوري والازدهار الفكري الذي حَصل في العصور الوسطى، والتي تميّزت بالاحتكاك بين الحضارة الإسلاميّة وغيرها من الثقافات المجاورة. وخصّص القسم الأخير لمرحلة النّهضة ومشاريع الحداثة، مع تحليل وافٍ لأثر الحركة الوهابية والامتداد الاستعماري وأشكال مقاومته بُعيد ظهور الفكر القومي العربيّ. وخَتم الكتاب بفصلٍ عن تحدّيات حضور الإسلام في الغرب.

وقد انسابت فصول الكتاب العشرة وفق منطق التسلسل الزمني، مع التركيز على آليات الحوار الحضاري الذي انعقد بين الإسلام وغيره من الديانات والثقافات، أخذاً وعطاءً، ضمن احتكاكٍ دائمٍ انتقلت خلاله المَفاهيم الإغريقيّة والهنديّة والفارسيّة، فضلاً عن مقولات الديانات التوحيديّة الأُخرى، إلى حقول العقل العربي ومجاله الجدلي والذهني.

كما تتالت، طي الفصول، أخبار جزئيّة تسترجع سيرَ أهمّ العائلات الحاكِمة في العالَم الإسلامي على امتداد مناطقه الجغرافية من الحجاز إلى الأندلس ومن القرن الأفريقي إلى تخوم آسيا، عرضها المؤرّخ في إيجاز غير مُخلّ وضمّنها "حكايات" طريفة وتفاصيل مفيدة حول المنظومة القضائيّة، وطرائق الارتداء، ومسالك التّبادل التجاري، وأنماط المعيش اليوميّ، خلال الحقب المتعاقبة في ديار الإسلام، مخصّصاً الفصل الأخير لوضع المسلمين في الغَرب، ولا سيّما مع ارتفاع عدد المهاجرين إليه، ومطالبتهم بحقّ إدارة شؤونهم وشعائرهم ضمن النّسيج الاجتماعي الذي يستند إلى الخلفية العلمانيّة، وإلى مبدأ الفصل بين المجاليْن: الخاصّ والعام.

وبما أنّ هذا "التاريخ" ممتدّ على مدى أربعة عشر قرناً من التغيّرات، فقد اقتضى من طولان انتقاء بعض الحِقب والتركيز عليها دون غيرها، مع تسليط الضوء، من خلالها، على علاقات التفاعل والتحاور التي انعقدت بين الإسلام والعالَم اللاتيني في العصور الوسطى، وما انتابها من صُور جاهزة عبّرت عنها شُعوب ضفّتَي المتوسّط إمّا بحروبٍ طاحنة واقعيّاً أو بكتابات ناقدة، وأحياناً حاقدة فكريّاً. ولا ننسى أنّ الرّجُل متخصّص في دراسة الصّور النمطيّة التي حاكها المفكّرون ورجال السلطة اللاتينيّون عن النّبي محمد، وأنه يدير الآن مشروعاً عن صُور القرآن في الخطابات الأوروبيّة في "عصر الأنوار" وما قبلها، ممّا يؤكّد أنّ مقاربته مرتكزة على ما أفرزه المخيال الجمعي من تصوّراتٍ، غالباً ما تكون عاكسة للذّات أكثر من عكسها حقيقة الموضوع المدروس.

إلا أنّ اللافت أنّ النّفَس التشكيكي الذي تعوّدنا عليه في كتابات المُستعربين، ومن قبلهم المُستشرقين، يكاد يكون غائباً هنا، عدا تحفظّات يُمليها الحذَر العلمي أو إشارات متفرّقة إلى تناقضٍ في الروايات المنقولة، مع أنّه لم يعتمد المصادر العربيّة الأُولى بشكل مباشرٍ، ولكن على تَرجماتها الأوروبيّة، وهو تمشٍّ مقبول إلى حدّ ماً، خصوصاً ويُضفى على كتابِه طابعاً سرديّاً خطّيّاً، لا إشكاليّاً تمحيصيّاً.

ومن بين اختياراته المنهجيّة الأُخرى العودة إلى المصادر الأوروبيّة، قديمها وحديثها، لرصد التحوّلات التي طرأت على حضارة الإسلام، لكن ليس من أجل رصد الأحداث التاريخية، وإنّما تَتَبُّع التمثلات الثقافية التي صاغتها الأطراف المتقابلة، كتلك التصوّرات التي حملها المسلمون القدامى عن أنفسهم وعن الآخر المُغاير. وهذا ما بَيّنه في فَصله المُخصّص لصورة العالَم من خلال رحلة ابن بطّوطة (1304 - 1377م)؛ حيث درس طولان تمثّلات فقيه مغربي عن المجتمعات غير الإسلامية وعن عاداتها وتقاليدها وخصائصها الثقافية.

ولذلك، تميّز هذا التاريخ بأسلوبه الواضح، فكأنّنا نطالع رواية مترابطة الأحداث. وقد تُعلَّل هذه السلاسة برغبة المؤرّخ في التوجّه إلى أوسع جمهور ممكن من القرّاء، وهذا أيضاً من وجوه الجدّة، لأنّ غالب مُؤلّفات المستشرقين القدامى كُتبت بأسلوب مجرّدٍ، واستخدمت آليات ومفاهيم لا يمكن للقارئ المبتدئ أن يلمَحها بسهولة، في حين يمكنه أن ينتقل بين فصول هذا الكتاب بيُسرٍ ومن دون أن يؤثّر ذلك في عمق التحليل.

وهكذا، فهذا التاريخ مزيج من الأخبار والأحداث السياسية ووصف للإنتاج الثقافي لمفكّري الإسلام وفلاسفته، لكنّه لم يأت بما من شأنه إحداث قطيعة معرفية في علاقتنا بالماضي. كما لم ينبنِ على ابتكاريّة في المنظور أو المنهج، ولا طرافة في الأرشيفات المستخدَمَة، لكنّه يظلّ، رغم ذلك، خطاباً معتدلاً عن القرون الخوالي، اجتهد في التحلّي بالموضوعيّة لتقديم وجهات النظر المتباينة واتخاذ المسافة نفسها منها. هو تاريخ شامل لأهمّ المحطّات، مُعطياته دقيقة غالباً ما صيغت بأسلوب رشيق. ويكفي هذا فضيلة في مشهد ثقافي فرنسيّ، يتنافس فيه أشباه المفكّرين على احتقار التاريخ الإسلامي وتشويهه.

وقد أشار طولان، في مقدّمة كتابه، إلى "أنّه ليس مسلماً" وأعاد الجملة نفسها في الخلاصة للتأكيد على أنّه يكتب بوصفه مؤرّخاً متخصصاً في ثقافات ضفّتي المتوسّط إبّان العصر الوسيط، وليس بوصفه مؤمناً منحازاً لهذا الطرف أو ذاك. ويمكن لهذه الإشارة أن توحي بأنّ ما رواه مغايرٌ لما تعوّد على كتابته المسلمون، في نقدٍ ضمني لمناهجهم وطرق نَظرهم إلى الذاكرة، كأنّهم مَحكومون، جوهريّاً، بالذاتيّة وتمجيد الماضي.

وقد يُشير ذلك إلى أنّ وجهة نظره هي مقاربة باحث أوروبي لفتراتٍ زمنيّة لا تعنيه وجدانيّاً ولا تشكّل جزءاً من هويّته، ممّا يتيح له، ربما أكثر من غيره، الفحص الموضوعي لوقائع التاريخ، واكتشاف المنطق الخفي الذي حكمها. وفي كلتا الحالتيْن ثمّة استنقاص خفي لتاريخ المسلمين لأنفسهم. وهو ما يشرّع للتساؤل ختاماً عن الفرق بين هذا العمل وبين "موسوعة التاريخ الإسلامي" الباهرة التي صاغها أحمد أمين (1886 - 1954) قبل عقود، أو بينها وبين أبحاث طه حسين وعبد العزيز الدوري وهشام جعيّط مثلاً، لنرى أوجه الجدّة والأصالة. نخشى أنّ تلك الأوجه لن تظهر بوضوح.

كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي