رواية السماء اليتيمة: مملكة المرايا المشوِهة

2023-03-25

جودت هوشيار

إيلا ليا مؤلفة موسيقية وعازفة بيانو ومغنية أذرية ـ أمريكية، ذات موهبة موسيقية أصيلة. ولدت في باكو عاصمة أذربيجان، ودرست الموسيقى، وتميزت بعزفها المدهش لأعمالها وأعمال بيتهوفن وموتسارت وتشايكوفسكي ورحمانينوف. هاجرت مع ابنها الصغير الوحيد سيرغي إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1990. وواصلت نشاطها الفني في المهجر، حيث أصدرت العديد من الألبومات الغنائية. وقدمت مع فرقتها (أوركسترا الجاز) حفلات موسيقية وغنائية في أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وظهرت أغانيها في عدد من أفلام هوليوود، وهي معروفة في الوسط الفني الأمريكي. مؤلفاتها الموسيقية مزيج فريد وسحري، كوكتيل رائع من ألحان روحها الأذرية، والموسيقى الكلاسيكية الأوروبية وموسيقى الجاز الأمريكي.. أصبحت مبعوثة فعالة ومؤثرة للثقافة الأذرية في الولايات المتحدة، وقد دعتها السيدة الأولى ميشيل أوباما إلى حفل عيد النوروز، الذي أقيم في البيت الأبيض في عام 2015 بصفتها فنانة بارزة أسهمت بنشاطها الفني المتواصل في إثراء التراث الثقافي لوطنها الأم ووطنها الثاني.

بعد بضع سنوات من وصولها إلى أمريكا فجعت إيلا بوفاة ابنها البالغ من العمر تسع سنوات بعد صراع مؤلم وخاسر مع مرض اللوكيميا. وأصيبت بصدمة نفسية عميقة، فحاولت دفن حزنها في الموسيقى، تقول في مقابلة صحافية: «وانغمست في الموسيقى التي كانت تعني لي البقاء، لكنني شعرت بأن الموسيقى على وشك النفاد. بعد ستة شهور من فقدان ابني قابلت ملكة جمال أمريكا، بيس مايرسون، التي قالت لي ـ عليكِ أن تجلسي وتكتبي وتسكبي على الورق كل شيء عن ماضيكِ. كتبت بطريقة ما مذكراتي، ووضعتها في درج طاولة الكتابة. وبعد فترة راجعت النص وأعدت صياغته عدة مرات على شكل رواية يمتزج فيها الواقع بالخيال. أعدت كتابة كل كلمة قبل المضي قدماً. واستغرق العمل ثلاث سنوات ونصف السنة، وأطلقت عليه «برج العذراء» وهذا البرج أحد المعالم التاريخية لمدينة باكو. غير أن ناشري اقترح تغيير عنوان الرواية إلى «السماء اليتيمة» وفعلا صدرت الرواية تحت هذا العنوان عام 2015».

«السماء العارية» رواية جميلة ومؤثرة عن اضطهاد الفنانين في ظل النظام السوفييتي، وعن قدرة الروح البشرية التي لا تحدها حدود على الإبداع الفني والموسيقي بحرية رغم كل الصعاب، كما تصور فترة متوترة من تاريخ بلد امتزجت فيه الثقافات التركية والفارسية والروسية، والفساد الشيوعي ببقايا الشريعة الإسلامية. وكان حظر الممارسات الدينية متجذراً بعمق في الأنشطة اليومية وأثّر في أسلوب حياة الناس.

تقول الراوية وبطلة الرواية ليلى: «بحلول الوقت الذي بلغت فيه سن الخامسة عشرة، كانت الشيوعية قد أصبحت ديني». أقيمت معابد الشيوعية ذات الأعلام الحمراء على رماد المساجد والكنائس المحترقة. حلت المطارق والمناجل محل الصلبان.. كانت العقيدة الفلسفية للحزب الشيوعي المصدر الوحيد للحقيقة. وكان لينين إلهنا». ماذا كان يعني العيش في إحدى الجمهوريات السوفييتية، ممزقا بين الدعاية الرسمية والمعتقدات التقليدية؟ أي حياة هذه لشابة موهوبة لا تستطيع الوصول إلى العالم الخارجي؟ أين الحرية – داخل أم خارج النفس البشرية؟ تحاول إيلا ليا العثور على إجابات لهذه الأسئلة والعديد من الأسئلة الصعبة الأخرى في روايتها الأولى حول الحب والخسارة والألم. تجري معظم الأحداث في باكو عاصمة أذربيجان في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات. تجسّد عازفة البيانو ليلى، المراهقة السوفييتية المثالية. فهي عضو منظمة الشبيبة الشيوعية (الكومسومول) وتحلم بتمثيل أذربيجان في المنافسات الدولية كعازفة بيانو بارعة.

والدها مسؤول رفيع المستوى في الحزب الشيوعي وفي إدارة النفط، ووالدتها طبيبة معروفة. تعيش ليلى مع والديها حياة مرفهة باذخة ككل أسر النومينكلاتورا (الطبقة الحاكمة السوفييتية) مثل الإقامة في شقة فاخرة، والحصول على السلع الأجنبية في متاجر مخصصة لكبار المسؤولين في الحزب والدولة، وتلقي دروس الموسيقى واللغة الإنكليزية على أيدي أساتذة خصوصيين، ومزايا أخرى كثيرة كانت تتمتع بها طبقة النومينكلاتورا. يكلفها الرفيق فرهاد ـ الشاب الوسيم الجذاب، والعضو البارز في لجنة الكومسومول المحلية بالتجسس على الفنان الناشئ طاهر، الذي يدير متجراً للتسجيلات الموسيقية، ويشتبه في أنه يصيب الشباب بتأثيرات غربية منحطة. تقبل ليلى المهمة لأنها حريصة على إثبات قيمتها لدى فرهاد والكومسومول. كانت الشائعات تقول إن مالك المتجر تاجر مخدرات أو ساحر أو جاسوس أمريكي. لكن ما أن تدخل ليلى إلى المتجر وتلتقي صاحبه الفنان البوهيمي المنشق طاهر حتى تتغير حياتها. وتجد إن طاهر ـعلى خلاف الشائعات ومزاعم فرهاد ـ شاب عميق الثقافة، وفنان مبدع يعشق موسيقى الجاز، والفن التجريدي والأدب، وآراؤه عن الاتحاد السوفييتي تفضح نفاق وأكاذيب «مملكة المرايا المُشوِهة» التي تعيش فيها.

ويكشف طاهر النقاب عن الفقر في المجتمع الأذري الذي يُزعم أنه لا طبقي وعن تاريخ عائلته المضطهدة، حيث زج بوالدته في معسكر للاعتقال في سيبيريا. آراء طاهر صدمت آذان شابة كومسومولية ملتزمة. وبدأت في التشكيك في القيم السائدة في محيطها الاجتماعي، لتقوم باكتشافات مريبة عن عائلتها. وتقع في حب طاهر ويصبح متجر الموسيقى ملاذاً لها. لكن مشاعرها المتضاربة تجعلها ممزقة بين حبها لصاحب المتجر، وثقتها المهتزة في النظام الشيوعي. وفي الوقت نفسه تواجه ضغوطاً من عائلتها للزواج من فرهاد. أصبحت حياة ليلى مروعة بسبب الخداع والفساد وسيطرة الحزب الشيوعي على شيء. وأخذت ليلى تدرك شيئاً فشيئاً أن كل ما قيل عن مجد الاتحاد السوفييتي مجرد بروباغاندا. وتكتشف أن النظام السوفييتي يقمع حرية الفكر بقسوة، وأن الملايين من الأبرياء أصبحوا ضحايا للظلم والفساد، وتم زجهم في معسكرات الاعتقال الرهيبة.

إن أقوى ثنائية في الرواية هي الحقيقة والأكذوبة، أو المظهر والواقع. وتقول سونا خانم وهي تتحدث إلى إبنتها ليلى عن النظام السوفييتي في أذربيجان، وعن عائلتها: «لا شيء يبدو في حياتنا على حقيقته». تنتقل سونا خانم إلى سؤال آخر من الأسئلة الأساسية التي طرحت في الرواية: «كيف تعيش؟ وكيف تتكيف مع الواقع، خاصة بالنسبة للنساء؟ إن هذه المرآة المشوِهة هي الحقيقة الوحيدة التي لدينا في حياتنا. وعلينا أن نعمل كل ما هو ممكن». سونا خانوم تفعل كل ما في وسعها بطريقتها الخاصة، أخت ليلى في الرضاعة وصديقتها المقربة ألماس بطريقة أخرى تماما. وينتهي الأمر برفض ليلى وجهة نظر والدتها واختيار طريقها الخاص في الحياة. خيار محفوف بالمخاطر في أذربيجان السوفييتية في أواخر السبعينيات. إن عملية تحولها من كومسومولية مخلصة إلى فنانة حرة الروح ترافقها سلسلة من الأحداث المأساوية، ما يجبر ليلى على اتخاذ القرار الذي لا يعرض حياتها للخطر حسب، بل أيضاً حياة عائلتها والأشخاص المقربين منها: قرار الهجرة إلى خارج مملكة المرايا المشوِهة:

«جاء الخريف.. أولاً في داخلي، ثم في كل مكان. سارعت الأشجار لنفض أوراقها مثل موضة العام الماضي ووقفت نصف عارية، خاضعة لتقدم الرياح الشمالية. تخلى بحر قزوين عن حسن تصرفه وأطلق شياطينه التي تنفث رشقات من الرغوة البيضاء».

الشخصيات في «السماء العارية» حية، رسمت بمهارة وتبقى في الذاكرة لمدة طويلة – ليلى، الرفيق فرهاد، الفنان طاهر، والدا ليلى، وصديقتها ألماس، ومدرس البيانو المتناقض سياسياً سلطان زاده.

برج العذراء

على الرغم من أن الحبكة الرئيسية للرواية شبه واقعية، إلا أنها تتشابك بطريقة سحرية مع القصص الخيالية وأساطير أذربيجان القديمة. ما يجعل الرواية أكثر عمقاً وثراءً ومتعددة الأبعاد. وتصبح الشخصيات ومشاعرهم وعواطفهم أكثر وضوحاً.. تصف الكاتبة موطنها أذربيجان بأنها: «أرض الشمس والنار، على مفترق طرق أوروبا وآسيا، والشرق والغرب، محاطة بجبال القوقاز الرائعة. مكان تغسله مياه بحر قزوين الدافئة- ملاك طفولتي».

«السماء اليتيمة» كنز ثقافي فهي مليئة بالأمثال الأذربيجانية والاقتباسات من التراث الشعبي الأذري، وقصائد الشاعر الملحمي الرومانسي نظامي ما يضفي على الرواية نكهة شرقية فريدة: «صغاراً وأبرياء، تذوقوا النبيذ المعطر برائحة البنفسج للحب الأول وأصبحوا، في حالة سكر عميق.. أوه، نبيذ الحب الأول، كيف يمكن لأي قلب أن يقاوم طعمك الحلو والمر». وعبر القرون، هناك رابط لا ينفصم بين السماء اليتيمة وأسطورة برج العذراء الشهير في أذربيحان ـ قصة أميرة تختار الحرية بإلقاء نفسها من أسوار برج العذراء، لكن السماء والبحر تبادلا الأماكن فولد طائر النار الجميل. «ذات مرة عندما سادت روح الظلام الشريرة على أرض أذربيجان، مخبئة الشمس داخل كهوفها تحت الأرض، عندما أطلت السماء اليتيمة على جبال القوقاز من قبة الحزن السوداء، عندما ذرف المطر دموع الجليد على الأرض القاحلة».

رواية موسيقية

كتبت إيلا هذه الرواية باللغة الإنكليزية على غرار بعض الكتّاب المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية الذين تدور مؤلفاتهم حول الحياة في بلدانهم الأصلية، ومنهم خالد حسيني الأفغاني، والكسندر هيمون الصربي، وجومبا لاهيري البنغالية، حيث يقدمون خبراتهم الفريدة ولمحات ثاقبة قيمة عن أوطانهم إلى القرّاء في الغرب. وهذا إنجاز بحد ذاته. أظهرت الكاتبة في روايتها معرفتها العميقة والثرية بالتراث الموسيقي العالمي حيث يتدفق الحضور الفني المضيء للموسيقى، بأشكال عديدة، عبر صفحات الرواية، فيجلب اللون والنبض إلى الحركة والأماكن والشخصيات. إيلا أيضا جعلت ليلى تفكر وتعبر عن نفسها بمصطلحات موسيقية، ما يخلق استعارات رائعة: «الرفيق فرهاد «قصف المنصة مثل أوركسترا سيئة التدريب في دار الأوبرا في باكو». و»كل نفس من أنفاس ليلى يرن مثل آلة التشيللو التي تنطلق بعيدا عن قوس قفز من دقات قلبها». إن الموسيقى المتأصلة بعمق في روح المؤلفة الإبداعية لعبت دورا أساسيا في كتابة «السماء اليتيمة». تقول إيلا في مقابلة صحافية إن «الكلمات هي نتاجاتي الموسيقية، التي تشكلت من خلال اللحن. أتابع إيقاعها، وتزامنها، وتناغمها، وتنافرها، وذروتها حتى أصل إلى ذلك المكان المقدس للحرية الإبداعية حيث يمكنني سكب قلبي على الورق».

كاتب عراقي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي