بعد التحرُّر من ديكتاتوريّة الطفولة

2023-03-10

أليخاندرو زامبرا

كان زمنَ الأمّهات المتوجِّسات، والآباء قليلي الكلام، زمن الإخوة الكبار أقوياء البنية، لكنَّه أيضاً وقت المعاطف والبطانيَّات والأغطية. ربما لذلك لم يستغرب أحدٌ أن تقضيَ كارلا وغونزالو، عند ظهيرة كلِّ يوم، ساعتين أو ثلاث ساعاتٍ من وقتيهما، على الأريكة، تحت المعطف الشيلوتي الأحمر المصنوع من الصوف الباذخ، الذي كان حاجةً أساسيَّةً في شتاء عام 1991 الجليديّ.

على الرغم من العقبات، سمحت خطَّة معطف البونشو لكارلا وغونزالو أن يفعلا كلَّ شيء تقريباً، عدا الجِماع الشهير، والمقدَّس، والمخيف، والمُشتهَى. قامت خطَّة والدة كارلا أساساً على محاكاة تفادي وجود أيِّ خطَّة، إذ كانت بين حين وآخر تسألهما بسخرية غير محسوسة، بهدف تقويض ثقتيهما، إن كانا يشعران بالدفء، وسرعان ما يجيبان بانسجام تامٍّ، وبنبرة ممثّلين رديئين، أنَّهما لا يزالان يشعران بشيء من البرد.

اعتادت والدة كارلا أن تختفي عبر الممرِّ وتذهب إلى غرفتها لمشاهدة المسلسل المتلفَز الذي تُتابعه من دون صوت. فالصوت الصادر عن غرفة الجلوس، حيث توجد كارلا وغونزالو يتابعان المسلسل نفسه، أكثر من كافٍ. في حقيقة الأمر، لم يكن يهمُّهما المسلسل كثيراً، لكنَّ قواعد اللعبة اقتضت منهما أن يعيراه اهتماماً في حال توجَّب عليهما الردُّ بعفويَّة وطبيعيَّة على تعليقات الأمِّ، التي كانت تتردَّد عليهما في فترات زمنيَّة غير ثابتة؛ تارةً لأجل تعديل الزهرية الموجودة على الطاولة، وتارةً لأجل عمل أيِّ شيء تراه ضروريّاً وملحّاً. كانت تسترق النظر إلى الأريكة، لا كي تراهما، بل كي يشعرا أنَّها تستطيع رؤيتهما. حينها، تنهمر عليهما تعليقاتها عن المسلسل؛ كأن تقول مثلاً: "هي التي بحثت عن هذه المشكلة! وهذا الشخص مجنون". وسرعان ما يجيبانها بصوت واحدٍ، عاريَين دائماً، وهما في خوف شديد: "تماماً. من الواضح أنَّها تحبُّه".

عموماً، كان أخو كارلا الكبير والمرعب -الذي لم يلعب الرُّغبي، لكن قياساً إلى حجمه وسلوكه، يمكن أن يكون بسهولة لاعباً في المنتخب الوطنيِّ للرُّغبي- يعود إلى المنزل بعد منتصف الليل. قليلة هي المرَّات التي اعتاد فيها أن يعود باكراً. ينغلق على نفسه في غرفته ويلعب "دبل دراغون". في بعض الأحيان، قد يحدث أن تشعر كارلا وغونزالو بالخطر، ولا سيَّما إذا نزل أخوها ليأخذ قطعة خبز مع مرتديلا، أو ليشرب كوكا كولا. لكن، لحسن الحظِّ، كانا يشعران به بسبب معجزة الدرج، ولا سيَّما عند الدرجة الثانية منه -أو قبل الأخيرة- حين يسمعان صوت الزقزقة الفاضح؛ إذ يستغرق وصول أخيها إلى غرفة الجلوس ستّ ثوان بالضبط منذ لحظة سماع صوت الزقزقة، ويُعدُّ ذلك وقتاً كافياً لهما كي يعدِّلا من وضعيتيهما تحت المعطف، بحيث يبدوان شخصين غريبين وبريئين يقاومان بتضامُنِ صبَّارة البرد القارس.

ستحدِّد شارة نشرة الأخبار، كلَّ ليلة، موعد انتهاء الزيارة: حينها سيودِّع الحبيبان بعضهما في الحديقة الأماميَّة بهيامٍ. وفي كثير من الأحيان، سيتزامن هذا الوداع العاطفيُّ مع موعد وصول والد كارلا، الذي يُشعل أضواء سيَّارته، ويجعل محرِّك التويوتا يزأر، تحيَّةً أو تهديداً.

"لقد طالت هذه العلاقة الغراميَّة أكثر ممَّا يلزم!". اعتاد أن يقول لهما ذلك، رافعاً حاجبيه، وبمزاج جيِّد.

كان طريق غونزالو من شارع لارينا إلى ساحة مايبى يستغرق أكثر من ساعة. اعتاد أن يمضي هذا الوقت في القراءة. على الرغم من أنَّ الضوء الباهت للأنوار كان يمنعه، في بعض الأحيان، لكنَّه كان يكتفي بإلقاء نظرة سريعة على قصيدة عندما يقف عند إحدى الزوايا المضيئة. في كلِّ مساء، كانوا يتحدّونه أن يعودَ باكراً إلى المنزل، فيُقسم، دون أدنى نيَّة للإيفاء بقسَمه، أنَّه من الآن فصاعداً سيعود باكراً. اعتاد أن يخلدَ إلى النوم وهو يفكِّر في كارلا، وحينما يتعذَّر عليه النوم، كما جرت العادة أن يحدث في كثير من الأحيان، يمارس العادة السريَّة وهو يفكِّر فيها.

أن يستمني المرء وهو يفكِّر في مَن يحبُّ اختبارٌ حقيقيٌّ لإخلاصه ووفائه، ولا سيَّما إذا ما استندت الاستثارة الجنسيَّة، كما يُقال في الإعلانات السينمائيَّة، إلى أحداث محض حقيقيَّة. وبعيداً عن الضياع في أوهام غير محتمَلة، كان غونزالو يتخيَّل نفسه دائماً على الأريكة نفسها، تحت المعطف الصوفيِّ الناعم، لكن مع اختلاف واحد فحسب، يمكن عدُّه العنصر الخياليَّ الوحيد، وهو أنَّهما كانا وحيدين. يمارس الحبَّ مع كارلا، فتضمُّه، وتغمض عينيها بلذَّة.

تعذَّر على كارلا وغونزالو اختراق نظام المراقبة الأُسريِّ. لكنَّهما كانا على ثقةٍ كاملة بأنَّ الفرصة ستأتي لا محالة. وبالفعل، حدث ذلك مع نهاية الربيع، عندما بدأت درجات الحرارة الغبيَّة تهدِّد كلَّ شيء وتفسده. قطع صوت فرملة مدوّ، مع جوقة من الصراخ الهادر، هدوءَ الساعة الثامنة ليلاً. لقد دُهس شخص ما عند الزاوية، فخرجت والدة كارلا كي تثرثر وترى ما حدث. حينها، شعر كلٌّ من غونزالو وكارلا بأنَّ الفرصة قد حانت. إذا أخذنا في الحسبان الثلاثين ثانيةً التي استغرقتها عمليَّة الإيلاج، والدقائق الثلاث والنصف لتنظيف الدم الطفيف، واستيعاب التجربة الخالية من الروح، يمكن القول إنَّ عمليَّة الجماع برمَّتها قد استغرقت أربع دقائق فقط. بعدها، انضمَّ كلٌّ من كارلا وغونزالو إلى الحشد المتفرِّج الذي أحاط بالشابِّ الأشقر المرمي إلى جانب درَّاجته الهوائيَّة المكسورة على الرصيف.

لو مات الشابُّ الأشقر، وحملت كارلا، لكان من الممكن أن نتحدَّث عن اختلال توازن طفيف في العالم لصالح السُّمر، ذلك أنَّ ابن كارلا سيكون أسمرَ، بحسبان أنَّ أمَّه وأباه شديدا السُّمرة. لكنَّ شيئاً من هذا لم يحدث. لم يقتل الحادث الشابَّ الأشقرَ، بل تركه أعرج. أمَّا كارلا، المتألِّمة، والغارقة في أعماق نفسها، فراحت تختلق الأعذار السخيفة، طيلة أسبوعين، كي لا ترى غونزالو. لكنَّها أخيراً، لمَّا قرَّرت رؤيته، كان ذلك كي تنهي علاقتها به وجهاً لوجه.

لا بدَّ من القول، دفاعاً عن غونزالو، أنَّ المعلومات الجنسيَّة، في تلك السنوات البائسة، لم تكن متاحة. ولم تكن ثمَّة نصائح أبويَّة أو من قِبل الأساتذة أو المرشدين التربويين. كذلك، غابت على نحوٍ كامل الحملات الحكوميَّة. كانت البلاد قلقة للغاية لأجل الحفاظ على الديمقراطيَّة الحديثة والمرتعشة، بحيث لم تأخذ في حسبانها أشياء متكلّفة، مثل التفكير في سياسة تربويَّة جنسيَّة شاملة، كما يحدث في دول العالم الأوَّل.

فجأةً، بعد التحرُّر من ديكتاتوريَّة الطفولة، عاش المراهقون التشيليُّون مرحلة البلوغ الانتقاليَّة وهم يدخِّنون الحشيش، ويستمعون إلى سيلفيو رودريغيز، وفرقة الروك التشيلية "تريس"، وفرقة الروك الأميركية "نيرفانا". في أثناء ذلك، راحوا يفكُّون شيفرات الخوف والإحباطات والصدمات والحيرة بمختلف أنواعها وأشكالها. وكان ذلك، على نحوٍ دائمٍ تقريباً، استناداً إلى قاعدة التجريب والخطأ.

آنذاك، لم يكن هناك ملايين الفيديوهات الموجودة عبر الإنترنت، التي تروِّج لفكرة ماراثونيَّة الجنس. علماً أنَّ غونزالو كان على دراية ببعض المنشورات الجنسيَّة. كما أنَّه، ولنقُل قرأ بعضها، مثل "بلاي بوي"، لكنَّه لم يرَ قطُّ فيلماً إباحيّاً. لم تكن لديه مصادر دعم سمعية وبصرية ليتعلَّم ويعرف أنَّ أداءه، كيفما نظرنا إليه، كان كارثياً. كلُّ فكرته عمّا ينبغي أن يحدث في السرير، استندت إلى تدريباته المعطفية، والحكايات البطولية والخرافية لبعض زملائه في الدراسة.

حزيناً، وفي حيرةٍ من أمره، بذل غونزالو كلَّ ما في وسعه لأجل العودة إلى كارلا. كلُّ ما في وسعه كان إصراره على مهاتفتها كلّ نصف ساعة. ناهيك عن ضياع وقته مع اثنتين من صديقاتها اللتين زعمتا أنهما ستتوسّطان له، لكنهما لم تفكِّرا حتى في مساعدته. كانتا تعتقدان أنَّه ذكيٌّ جدّاً، وجذَّاب ومرح، لكنَّه، مقارنةً مع عدد لا يحصى من الذين أُغرموا بكارلا، كان قليلاً عليها، لا يستحقُّها، لقد عدُّوه رجلاً دخيلاً وغريب الأطوار من مدينة مايبو.

لم يتبقَّ لدى غونزالو أيُّ خيار سوى الرهان على الشعر، في كلِّ شيء. حبس نفسه في غرفته، وفي غضون خمسة أيَّام، كتب اثنتين وأربعين قصيدةً، متأثِّراً بالأمل الموجود في قصائد بابلو نيرودا، ومقتنعاً بأنَّه سيكتب شيئاً استثنائيّاً يُقنع به كارلا بالعودة إليه.

في بعض الأحيان، كان ينسى أحزانه، ولا سيَّما عندما يغرق في تفكيره لأجل تعديل أو تشذيب بيت شعريّ أعرج. أو لأجل إضافة إيقاع شعريٍّ مناسب إلى القصيدة. غير أنَّ فرحة الصورة التي يحقِّقها، حسب رأيه، سرعان ما كانت تمحوها مرارة الحاضر. يا للأسف، لم يكن ثمَّة شِعر حقيقيّ في تلك القصائد المكتوبة. لنأخذ، في سبيل المثال، هذه القصيدة التي لا يمكن حفظها، والتي تُعدُّ من القصائد الخمس الفُضلى في ديوانه الشعريِّ:

"مثل الشمس

الهاتف أحمر،

الهاتف أخضر وأصفر.

أبحث عنك في الليل والنهار،

فلا أجدك.

أمشي مثل الزومبي في المركز التجاريِّ.

أنا مشروب كحوليٌّ دون كحول،

أنا سيجارة مشوَّهة في جيب من يحجّ.

أنا قنديل بلا ضوء.

يرنُّ الهاتف في النهار كلِّه

لكنَّه قد لا يضحك.

أشعر بألمٍ في قلبي وأذنيَّ.

في ضرسي وحاجبي.

إنَّه صيف أو شتاء أو ربيع

وربما، بكلِّ تأكيدٍ، سأموت".

قد تكون الفضيلة الوحيدة للقصيدة في تسلسلها الإيقاعيِّ، ويمكن أن نعدَّ ذلك جديراً بالتقدير لفتى يبلغ من العمر ستَّة عشرَ عاماً. غير أنَّ المقطع الأخير من القصيدة، وهو الأسوأ، كان الأكثر أصالة لدى غونزالو، لأنَّه فعلاً أراد أن يموتَ بفتور وانسحاب. ليس مضحكاً أن نسخر من مشاعره، لذا دعونا نسخر من القصيدة، من قافيتها المتواضعة، من عاطفتها الواضحة، ومن كوميديَّتها غير الإراديَّة، لكن يجب ألَّا نقلِّلَ من ألمه، فهو حقيقيٌّ إلى أقصى الدرجات.

فصلٌ من رواية "شاعر من تشيلي" التي تصدر العام المُقبل عن "دار نينوى" بترجمة جعفر العلّوني

بطاقة

Alejandro Andrés Zambra شاعر وروائي تشيلي من مواليد سانتياغو عام 1975، يُعدّ من أبرز الأصوات الأدبية الجديدة في بلاده. درس الأدب الإسباني في "جامعة تشيلي"، وتخرّج عام 1997. صدر له في الرواية: "الحياة الخاصّة للأشجار" (2007)، و"طرق العودة إلى الوطن" (2011)، و"الإيقاع الأبدي" (2015)، و"شاعرٌ من تشيلي" (2020). وفي الشعر: "ملفّاتي" (2013)، و"ناطحات سحاب" (2022).








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي