الفنّ خوفٌ آخر: سِجال الفنان وهواجسه

2023-03-05

سومر شحادة

منذ الرسم على جدران الكهوف إلى المعارض الحديثة، يعمل الفنّان موهوماً بالخلود. أساساً، الفنّ طريقة يجادل بها الإنسان حتميّة فنائه. وبالقليل من المبالغة، يمكن القول إنَّ الإنسان يفكّر بالفنّ ويمارسه، لا كي يبدّد الزمن فحسب أو يطوي ثقل ساعاته، وإنَّما كي يبدّد شعوراً آخر، عدا الزمن، هو الخوف من انقضاء الزمن من غير أن يترك الإنسان أثراً لعبوره؛ إنّه خوفُ غياب الأثر بعد الموت. لكنّ الكتاب الصادر حديثاً عن دار "الكرمة" بعنوان "الفنّ والخوف"، من تأليف الفنانين الأميركيين ديفيد بايلز وتِد أورلاند وترجمة الفنان خالد فاروق، يبحثُ في الخوف المرتبط بعمل الفنّان وبوصف الفنّ صناعة. أي، الخوف المرافق للفنّ، لا ذلك الذي يأتي بالفنّ في البدء.

في الكتاب، لا يظهر الخوف والفنّ نقيضين لبعضهما بالمعنى الوجودي الذي يجعل من حياة أحدهما موتاً للآخر؛ بل يبدو الخوف رفيقَ الفنّ، وأحياناً خصمه. فيما الفنّان بينهما مدفوعاً بأحدهما تجاه الآخر، يعيش سجالهما. إذ يظهر الفنّان أسيرَ شعوره بالخوف من الفشل، ومن عدم قبول متلقّي الفنّ له، ومن عدم الاستمرار. ويظهر بالمقابل رهين شعورٍ قوي آخر يتأتّى من حقيقة الفنّ، الذي هو إصرار وكدّ ومواظبة. وما يحكم استمرار الفنّان وعدم اعتزاله، هو أيّهما يتغلّب على الآخر؛ إحساسهُ بالخوف أمام تجربة صناعة الفنّ كَكُلّ، أم إحساسهُ بجدارة الفنّ واستحقاقهِ في وجه الخوف، لا سيّما أنّ المؤلّفين يؤكّدان على أنَّ الفنّ أساساً يصنعه أناسٌ عاديون، لا استثناء لديهم، سِوى إتقانهم الأدوات التي يصنعون بها فنّهم، وإدراكهم الطريقة التي يعمل بها الفنّ. أي، ما يجعل من عملٍ دون آخر فنّاً. بالطبع، هذا سؤال شغلَ المشتغلين في الأدب والفنّ عموماً. إلا أنَّه في الكتاب هذا مقتصرٌ على إيجاد الفوارق بين الحرفة وبين الموهبة. والكتاب بصورةٍ ما، هو بحث في حرفة الفنّ واشتراطاتِ استمراره.

كما ينظر المؤلفان إلى الفنّ اليوم نظرة واقعية مفادها صعوبة أن يكون المرء فنّاناً، ليس فقط لكثرة دارسي الفنون، وإنّما لصعوبة التفرّغ لصناعته تفرغّاً خالصاً. ومعروف أنَّ الفنّ من المسارات المهنية، إن جاز القول، التي تتطلّب أن يرهن الإنسان مصيره بهِ، كي يضع مشروعه على مسار النّجاح من غير أن يكون وصوله محتّماً. هذا الرهان الشاق هو ما يصنع الفنّان. النّجاح ليس مؤكداً؛ بل وفق آلية عمل الفنّ المعقّدة، سوف يعزّز غيابُ يقين الفنّان بتحقيق النّجاح، إصرارَهُ على الاستمرار. إذاً، مسألة أن يكون أحدهم فنّاناً ليست في البدء، بل إنّها تأتي بعد ذلك. تأتي في إجادة التراكم: لوحةً بعد أُخرى، وروايةً بعد أُخرى. حتّى يمكن للخوف أن يندرج ضمن الآلية التي تجعل من عدم اليقين سلوكاً يقود إلى النجاح. وعوض أن يكون الخوف عائقاً، فهو يصبحُ محفّزاً على العمل. ويمكن أن يكون تعريف الفنّان هو: مَن بمقدوره ترويض مخاوفه المؤقّتة، مأخوذاً بالأمثولة العليا التي هي الفنّ.

غاية المؤلفين الإجابة عن سؤال ما الذي يجمع الفنانين بعضهم إلى بعض. والإجابة تتوزّع على فصول الكتاب، تبحث طوراً في طبيعة الفنّ وآخر في طبيعة الخوف الذي يقاسي منه الفنّانون. ويمكن تلخيص النجاة من الخوف عبر اعتبار الفنّ، أو العمل بالفنّ، أشبه بالطقس. وهذه خلاصة، لا يذكرها المؤلّفان بصورة واضحة. لكن يمكن للقارئ أن يستنتج هذا بوضع الاعتبارات العديدة التي يذكرانها بصورة متآلفة، فالفنّ عادة، ومزاولته اعتياد، وهو مرهون بعلاقة الفنّان مع أعماله. أمّا نتيجته، فمرهونة بالتجربة كلّها، مكتملةً، كما أنّ ما يميّز فنّاناً عن آخر، لا يوجد فقط في أعمالهم، بل يوجد أيضاً في سيَر حياتهم. فالفنّ، بحسب الكتاب، ليس إلا ذلك الخيط الذي يربط أعمال الفنّان بحياته.

إن كان كتاب "الفن والخوف" بعنوانه الفرعي، "ملاحظات حول مخاطر (ومكافآت) صنع الفنّ"، يبحث في أسباب عزوف فنّانين عن العمل بالفنّ، والتفاتهم إلى مسارات مهنيّة أخرى منها تدريس الفنّ، فإنَّ ما يخلص إليه، بصورةٍ ما، مرتبطٌ بتقبّل الخوف شريكاً في صناعة العمل الفنّي. وكأنّما الفنّان الذي يلمع أخيراً، لم يكن إلّا إنساناً عاديّاً، إلّا أنَّه بفضل عاديّته وبمؤازرتها، تغلّب على المخاوف من الفشل أمام الآخرين. في النهاية يدرك الفنّان أنّ فنّه مأواه ومعتزله، وأعماله هي مُرشِده. وما عليهِ إلّا أن يعيش بأسلوب يتيح له الاستقلاليّة، ويمكّنه من الإخلاص لمهنةٍ تجادل بإصرار الخوفَ الأبدي.

روائي من سورية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي