الناقد الجزائري حميد عبد القادر: الروائي العربي تناول ظاهرة الدكتاتور بشكل سطحي

متابعات - الأمة برس
2023-02-27

حاوره: عبد اللطيف ولد عبد الله

حميد عبد القادر روائي وناقد جزائري ـ مواليد عام 1967 ـ درس العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة الجزائر، والتحق بالعمل الصحافي منذ عام 1990. أصدر عبد القادر العديد من المؤلفات بالعربية والفرنسية، ما بين الإبداع الأدبي والنقدي، وكذلك التاريخي. من أعماله الروائية.. «الانزلاق» «مرايا الخوف» «توابل المدينة» و»رجل في الخمسين» إضافة إلى مجموعة قصصية بعنوان «حكايات مقهى ملاكوف الحزينة». وفي مجال النقد أصدر «أسفار الزمن البهي» و»الرواية مملكة هذا العصر». عن رؤية الرجل النقدية والإبداعية كان هذا الحوار..

تناولت في كتابك «الرواية مملكة هذا العصر» مقالا بعنوان صورة الديكتاتور في الرواية العربية، وأشرت إلى أن الرواية العربية لم تتناول ثيمة الديكتاتور بصفة مطلقة كما نجد ذلك في روايات أمريكا اللاتينية مثلا، ما السبب في رأيك؟

تناول الروائي العربي ظاهرة الديكتاتور تناوُلا سطحيا. لقد فضل المراوغة، فنجده على سبيل المثال قد كتب الكتابة عن شخصية العمدة صاحب السلطة المطلقة، ورجل الشرطة المتسلط بدل الكتابة عن الديكتاتور، فلم نقرأ مثيلا لرواية «خريف البطريرك» لماركيز التي وصفت آليات القمع، ورسَمت شخصية الديكتاتور، وقدمت جوانب دقيقة من حياته ونفسيته وأفكاره. ولعل روايتَيْ «الزيني بركات» للروائي المصري جمال الغيطاني، ورواية «عو» للفلسطيني إبراهيم نصرالله، كتبتا للتعبير عن الرقابة المنتشرة في العالم العربي، وأسلوب التعامل البوليسي مع المواطن، فشكلتا الاستثناء، نعثر في الرواية العربية منذ مرحلة سبعينيات القرن العشرين، على انعكاسات واضحة لظاهرة الديكتاتور، بالأخص في روايات عبد الرحمن منيف، في «شرق المتوسط» التي كتبها عام 1972، والتي تصف أجواء السجن السياسي الذي يحاول قتل الجسد العربي بواسطة الترهيب. وتوجب انتظار ثمانينيات القرن الماضي، أي بعد تبخر الأحلام، والتأكد من أن الزعيم العربي خالف وعوده بشكل نهائي، ولم يحقق العدالة الاجتماعية المنشودة، بل فرض وأسس نظاما قمعيا متسلطا، لكي تتبلور فكرة ضرورة تناول ظاهرة التسلط وشخصية الديكتاتور العربي روائيا. فنشر حيدر حيدر رواية «وليمة لأعشاب البحر» التي تصور حياة شيوعيين عراقيين في منفاهم في الجزائر. وكتب مؤنس الرزاز رواية «متاهة الأعراب في ناطحات السراب» بينما عاد عبد الرحمن منيف للموضوع ونشر «مدن الملح». كما لم تخلُ رواية «العصفورية» لغازي القُصيبي من الإشارة إلى موضوع التسلط العربي وشخصية الديكتاتور. ونعثر على الظاهرة نفسها لدى هاني الراهب في روايته «رسمت خطاً في الرمال». الرواية العربية رواية سياسية بامتياز، لكنها لم تكن بحثا معمقا في السلطة. تحضر فيها ثيمات العنف والقهر وكل مظاهر التسلط، لكنها عجزت عن إبراز عمق جذور الجهاز الحاكم ونواته الأساسية وطبيعة آلة السلطة الديكتاتورية في خفائها وتجلياتها. كما اكتفت طويلا، بأن تكون رواية سجون ومخابرات وفظائع لا غير. وكانت رواية نهاية أحلام مرحلة.

ولماذا يبني الجيل الجديد عالمه الإبداعي من فراغ، مبعدا فكرة التراكم، لماذا لا نجد ذلك الاعتراف بمن سبقوهم من الأدباء وكأنهم يعانون من عقدة أوديب؟

ربما ذلك يعود إلى واقع حياتنا الثقافية التي لم تعد تسمح بوجود تواصل بين الأجيال. فالجيل الجديد منغلق على نفسه، جيل نرجسي جدا، لا ينظر بعيدا، ولا يؤمن بالتراكم، بقدر ما يؤمن بما هو موجود بين يديه. جيل يعتقد أن الالتفات للوراء، وبالضبط إلى الآباء المؤسسين للرواية الحديثة يعتبر مضيعة للوقت. لم يكن الجيل الذي أنتمي إليه على هذه الحال، نحن جيل أراد أن يبني على القراءات. كنا على تواصل دائم مع كتاب الأجيال الذين سبقونا، وكنا نحضر ندواتهم، ونسمعهم يتحدثون عن فلكنر وجويس ودوس باسوس، وفيرجينيا وولف، فنهرع للمكتبات بحثا عن مؤلفات هؤلاء الكتاب، كما لم نهمل الرواية العربية. كنا نعتقد أنه لا يمكن كتابة الرواية، دون القراءة، وبالضبط قراءة الروايات التي تندرج ضمن اللحظات المهمة في تاريخ الرواية الإنسانية. لم نشعر بعقدة أوديب إطلاقا، ولم نرغب في قتل الأباء المؤسسين، بل تواضعنا أمام عظمة أعمالهم الروائية، ومنها تعلمنا الكتابة الروائية.

ما تفسيرك لموقف الكاتب والتزامه، والجدالات البناءة في الصحف، وبين ما يشبه النميمة وتصفية الحسابات الآن في مواقع التواصل الاجتماعي؟

نحن نعيش «عصر الفراغ» وهذا الزمن للأسف هو زمن تراجع الأيديولوجيات. في التسعينيات كنا نشعر بالسعادة ونحن نتابع السقوط المدوي للأيديولوجية، التي كنا نحصرها في «الماركسية اللينينية» عقب سقوط جدار برلين، وهزيمة المعسكر الاشتراكي. كنا نشعر بالسعادة ونحن نرفع شعار الحداثة، التي ارتبطت حسب اعتقادنا آنذاك بالليبرالية، وبنمط العيش الغربي، لكن كما كانت دهشتنا كبيرة حين وجدنا أننا نعيش عصر الاستهلاك، الذي نتج عنه فراغ ثقافي رهيب. وبالمناسبة غياب النقاشات الكبرى ليست خاصية عربية، فالعالم برمته لم يعد يستمع لصوت المثقف، لقد انتشرت الشعبوية في كل مكان، في الغرب وفي غير الغرب، اتضح أن عصر الاستهلاك معاد للثقافة. والمثقف في هذا العصر لا يلعب أي دور فعال، هو موجود فقط لتأثيث حياة ثقافية لم تعد تملك أي رونق يذكر. في كل مكان في العالم اختفت التقاليد الثقافية الكبرى، وتركت المجال أمام استهلاك ثقافي على وزن الاستهلاك الاقتصادي، وهذا الاستهلاك يمتاز بالخفة، تتحكم فيه أذواق تجارية تفتعل لحظت عابرة لا تملك أي قوة على التأثير.

في كتابك «الرواية مملكة هذا العصر» ترى أن النص الروائي الجزائري متخم بالنرجسية، ألا يعد هذا حكما جائرا؟

لقد غاب المجتمع عن رواية التسعينيات وحضر الفرد، وهذا ما كنت أقصده بكلامي، بحكم أن كل روائي صادق مع نفسه في ما يكتبه، لا يقترب إلا من العوالم التي عايشها وجربها واحتك بها. قد يقول قائل، إن الرواية ليست معايشة فقط، بل هي تخيل كذلك، واكتشاف لعوالم خارجة عن نطاق الذات، وهذا صحيح. بيد أن الحالة الاستثنائية التي كنا نعيشها في التسعينيات، وحجم الهول الذي كان يحيط بنا ويهدد حياتنا، جعلنا نختار ذواتنا كموضوع لأعمالنا الروائية. وبرز هذا الحضور بشكل مركزي، أي كهاجس تدور حوله المواضيع الأخرى، والشخصيات التي تخيلناها ورسمناها، بمعنى أن كل رواية تسعينية، شكلت فيها الذات محورا تدور حوله باقي المحاور، فالذات هي التي ترى وتحكي وتتأوه وتقاوم. وهذه الذات كانت ذاتا مثقفة تعبر عن رؤية للعالم، وتعكس تصورا معينا للحياة. لا اعتقد أنه حكم جائر، بل هو عبارة عن ملاحظة لها ما ترتكز عليه، فكل أدب التسعينيات ذاتي ونرجسي.

وبالنسبة للنقد، لماذا برأيك لم تعرف الجزائر بعد ميلاد مؤسسة نقدية أدبية مستقلة عن المؤسسة الرسمية الجامعية كما جرى مع الرواية؟

مؤخرا، أثار الروائي أحمد طيباوي، الفائز بجائزة «نجيب محفوظ» للرواية في مصر، نقاشا حادا، وجدلا لم يتوقف، بعد أن تساءل عبر صفحته على «فيسبوك» هل نملك نقادا حقيقيين؟ فحسبه، لا يوجد سوى بضعة أسماء يمكننا أن نقول عنها إنها تُقدم مجهودا نقديا. لم يمض كلام أحمد طيباوي مرورا عاديا. بحيث أضاف الكثير من المعلقين أسماء أخرى. بيد أن تعليق بعض الأساتذة، كان الأكثر إثارة للجدل، حين تحدثوا عن «الناقد النجم» الذي يكتب حسبهم في كل شيء، ويدلي بآرائهم على مواقع التواصل الاجتماعي والجرائد اليومية، فراح يُقلل من شأنِ وقيمةِ تلك الكتابات. وبدوري أود أن أسأل «من هو الناقد؟» هل ذلك الدارس للأدب، الذي يعمل بين أسوار الجامعات مُدرسا، بعيدا عن «لغط فيسبوك والجرائد» ناقدا؟ هل الباحث الأكاديمي الذي يكتب، وينشر ما كتبه في مجلة مُحكمة، بغية الارتقاء في السلم الوظيفي لا غير، ناقدا أدبيا؟ شخصيا لا أعتبر هؤلاء نُقادا، بل مجرد دارسين وأكاديميين في حقل الأدب.

في روايتك «رجل في الخمسين» تعرضت لمسارات كثيرة مرّ بها البطل خلال عقود من الزمن تظهر فيها أفكاره ورؤاه فهل العمل مزيج بين الرواية والسيرة الذاتية؟

كل ما كتبتُه مرتبط بحياتي إلى حد بعيد. حتى قصصي القصيرة التي صدرت ضمن مجموعة «حكايات مقهى ملاكوف الحزينة» فيها جوانب كثيرة من تجربتي في الحياة. وفي رواية «رجل في الخمسين» هناك كثير من ذاتي، ليس في التفاصيل الكبيرة، بل في بعض الجزئيات فقط. فالرواية عندي عبارة عن مزيج من التجربة الذاتية والخيال. طبعا بواسطة الفن نجعل من الحياة أدبا. ونعطي السيرة الذاتية بعدا روائيا. ورواية «رجل في الخمسين» فيها من تجارب الحياة ما يكفي لكي نقول إنها رواية أجيال عديدة، عايشتها ككاتب، أو سمعت عنها من الناس من حولي. وهنا أود أن ألفت النظر إلى مكانة الذاكرة في السرد الروائي. فكثير من الأحداث التي نكتب عنها انتقلت إلينا عبر الذاكرة، والحكي الشفهي، وهذا الأخير هو بمثابة البئر الأولى التي يرتوي منها الكاتب، حتى قبل أن يصبح كاتبا. فالتاريخ على سبيل المثال الذي يُنقل حينها عبر المرويات أي عبر الذاكرة، تاريخا جزئيا مرتبطا بالأفراد، في وقت كان فيه التاريخ المكتوب يهتم بتاريخ الجماعة والشعب على حساب تاريخ الأفراد. وفي التاريخ الفردي المروي في إمكانك أن تعثر على لحظات روائية، إذ لا مكان للبطولات فقط، بل هناك لحظات ضعف وخوف وتقهقر فردي، وهذا هو عالم الرواية بالذات.. عالم الضعف الإنساني، وليس البطولات.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي