الوجه الآخر لباريس

2023-02-19

فادي أبو ديب

رسالة إلى صديق قديم في باريس

كم أفتقد التجوال في مونمارتر

والإصغاء إلى قلبه المقدَّس!

في المرّة القادمة لي هناك

سأصغي إلى راهبة تتشارك الترتيل مع عصفور

وآخذ اللاتينية ولو عن متسوّل

لأتجسّس بها على موسيقى الأفلاك

سأبحث عن حجارة صغيرة متبقّية من القرن الثامن عشر

وأسأل المكان عن المكان

ثم أجد لنفسي من يبيعها عدّة خيميائيّ قديم

فأستجوب المادّة عن مسيرة الضوء

وعن معنى الصوت...

كيف يتدرّج إلينا من الهوّة العتيقة

ويصل محمّلاً بالصدى والعمق والذهول.

17 كانون الأول/ ديسمبر 2021

■■■

حجّ إلى مونمارتر

1

تُسلّمني الراهبة التي ظنّت أنّني إسباني

قلماً وورقة

وتقول: اكتُب،

وارمِ الرسالة قرب مغارة الطفل الآتي

السيرافيم سوف ينزع الشوكة من خاصرتك.

2

للحيّ العتيق زوايا مسكوت عنها

قارّة تنفتح للخارجين عن الطرقات المعروفة

أقول لنفسي:

ليتني دخلت الزقاق المنحدر على شمالي

كأنّني لمحت نافذة زرقاء عالية

ومنعطفاً يغرق في شمس منتصف الليل!

3

تقول الراهبة:

هل تعرف البيت الذي تمتدّ شرفته عكس مجرى الزمن؟

اقرع الباب وأسأل عن ثمار الليل المُضمَر

وتناول اليد التي تمتد إليك!

4

البرد يتغلغل في عظامي

يحمل معه أشعّة وجهك الغابر

"ما العلاقة بين كفّها والقرنفل؟"

يسألني الصوت حين تتجمّد كفّي

قرب أوعية النبيذ الساخن.

5

أبحث عن كتاب مصوَّر

اليوم كنت أكره النصوص الطويلة

أبحث عن صور حزمٍ ضوئية

بالأبيض والأسود

تخترق نوافذ قديمة/ تحتلّ وجوه نساء

يا الله... ما أقوى ضوء ذلك الزمان!

17 كانون الأول/ ديسمبر 2022

■■■

برزخ الحيّ اللاتينيّ

1

يقولون

إن من كنيسة سانت-إتيان

مدخل غابة البوم اللانهائية.

فيها...

في الظلال الصلدة بين عالمين

ما زالت تعيش المجدلية

لوحدها في عُمق عمق المدينة

على ذكريات أزمنة الوميض

التي عاشتها مئات المرّات.

سيّدة تمرّ بجانب الباب المغلق أبداً

وتهمس لي:

البرق...!

2

المقهى الإيرلنديّ الداكن

لون الخرافة الشتوية في حُلم وَلَد

منامٌ داخل منام

داخل منام آخر.

ألهذا أردتِ أن ندخل إليه؟

لكي لا نستيقظ أبداً...

أبداً؟!

3

تشير إليّ دمية من القماش

تلوّح بحماسة من واجهة العرض

وحين أقترب منها

تكرر بصوتها السديميّ

"إنها تحبّك...

تحبّك...

تحبّك..."

4

بجانبي

يمرّ الكهنة ويعبسون

فأسأل نفسي:

هل يبدو الشك في عينيّ

أم أنّ وجهي يذكّرهم بذنبٍ قديم-

أنا ابن آخر البلدات

التي بناها فرسان الهيكل؟

9 كانون الأول/ ديسمبر 2022

■■■

اشتباك العوالم

1

عيناها تستبيحان وجهي

ومن شعرها تسحب بكل هدوء

خيطان الشمس

وتسألني برمقة تحدّ: "طيّب... وماذا ستفعل؟!"

2

في سان سولبيس

تمثال سيدة القمر محجوب عن أعين الحجيج

لم أكن أعرف أن أحلامي الذهبية/

هي أيضاً تحت الرقابة

وأنّ الآلهة يتعرّضون للإخفاء القسريّ.

3

على مائدة أمّي وأبي

رسائلُ سولوفيوف

وقهوةٌ بالبندق.

هل كانت صدفةً أن باقي الطاولات/

يحتلّها ضيوفٌ بملابس القرن التاسع عشر؟!

4

في الحي اللاتيني

جمع يبكي حول جثّة التاريخ

وعقبانٌ تحط على كنيسة سانت-إتيان

وتطير بها نحو المجهول.

مكانها فارغ

وأنا أشعر بالغبطة

لأنّ اشتباك العوالم قد بدأ.

8 كانون الأول/ ديسمبر 2022

■■■

مشاهدات عند غابرييل لاروش

معصوبة العينين

ترسم في الهواء بأصابعها الرفيعة

ببطء... كأنّها تصغي إلى صوت الأشياء

وهو ينحت الخشب أمامه

تخبره كيف يسير في ممرّاته بحذر

ومن أين يدخل منه

إلى قلب الغابة.

***

عارية

كشجرة عنّاب في الشتاء

لم يبق عليها سوى ثمرتين

منهما يعرف النحّات شكل الربيع القادم

يهمس للخشب أحياناً

فتتفتّح شرايينه بالكلام

ليبني في داخل الدُّغل الكثيف

مدينة.

***

تُبدّل مجلسها

بين زوايا المكان الأربعة

كأنّ في كل زاوية لحناً جديداً

والطريق في قلب المادّة السحرية يتفرّع

يلتفّ وينثني

لكنّ الطريدة سهلة

والسفر لذّة عظمى في عُرف العين البصيرة.

***

أسألها كيف تعلّمينه صور الطيور؟

تقول: يداي صوت واحة وحفيف أجنحة.

وكيف تقودين درب الإزميل في مُدُن الجماد؟

تقول أنا الدّرب والإزميل والمدينة.

يضحك النحّات بعد أقوالها بصوت سفينة

يقول لي: "وأنت... مَن أنت؟

صوتك يا سيّد كصوت مئة جزيرة

ادخل وانتظر...

سأرسم عالماً بسبعة بحارٍ

بعد أن أفتتح عند الفجر

مدينة غابتي هذه

وأعلن فيها مهرجان الربيع".

27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022

■■■

تاريخ سائل

1

قدموس

في وجه المغيب تشقّ الحافلة دربها الجبلي الوعر

شرقي البحر العتيق

عشرون صبيّة فيها لا يرغبن في العودة إلى المنزل

تنتصر الرغبة اللاهبة أخيراً

تموت الجاذبية

وتنعطف الحافلة نحو عالم الزعفران.

2

جادة سان جرمان

تجلس في زاوية المقهى

مع كأس نبيذ أحمر وبعض البسكويت المملّح

في عينيها نمرٌ بنغاليّ

وأنا أحدث نفسي الوحشية:

إنّ بعض الضوء أطيب من بعضه الآخر

وكأنّ غابات استوائية تخترق نسيج الشوارع كلّها

فترتعش ظلال الرياح.

3

حلب

كلّ الشوارع بلا نهايات

كلّ الأزقّة مقطوعة ومرمية أطرافها في براري الدهر الغريب

أنا الذي فعلت بها كل هذا

لأنّني لم أكن أقرأ المكتوب على جدران الله.

4

في باريس

أسأل أبي وأمّي

لماذا كنتما تحبان بوب مارلي؟

تقول: لأنّ أنوار الظهيرة كانت ترقص على ألحانه

يقول: لأنّني أحبّه!

هل خمّنت في سِرّي/

أنّ صوته كان يمنح المدن رائحة خلجان الفرح البعيد

ويسبغ على الأشياء الواضحة نكهة الإبهام الذي أضعناه جميعاً؟

20 كانون الأول/ ديسمبر 2022

شاعرٌ وكاتب ومترجم سوري مقيم في السويد








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي