عزيزة الطائي: الكاتبة الخليجية تجاوزت القيود في مجتمع يهيمن عليه النسق الذكوري

2023-02-11

حاورها: عبد اللطيف الوراري

عزيزة الطائي كاتبة وأكاديمية عمانية، صدرت لها مؤلفات عديدة في الشعر والسرد والنقد الأدبي، وحازت جائزة الشارقة لإبداعات المرأة الخليجية في دورتها الثانية 2018- 2019. تتحدث في هذا الحوار عن شكل تدبيرها العلاقة بين الفعالتين الإبداعية والنقدية، واقع الرواية العربية وأهمية عنصر التجريب في تطوير أشكالها واتجاهاتها الفنية، ومساهمة الرواية النسوية الخليجية وسط هيمنة النسق الذكوري، وأهمية كسر الحدود الصارمة بين الأنواع الأدبية لإثراء مخيلة النص وحرية المبدع، كما تتحدث عن مستقبل الثقافة العربية وتدعو للخروج من أزماتها إلى تجديد التراث بنزعة إنسانية قوامها التفاعل والاستثمار والانفتاح على ثقافة الآخر وتقبله.

تزاوجين بين ممارسة السرد ونقده، كيف تدبّرين العلاقة بين هاتين الفعاليتين؟ وهل تمارسين رقابةً ما على نصّك الإبداعي؟

كثيرا ما يواجهني هذا السؤال، كيف توازنين بين المسار النقدي وكتابتك لنصوص سردية؛ ودائما تستوقف ذاتي معه بما يحمله بين وجودي الذاتي، والحدود المعرفية التي قادتني للجمع بينهما. فقضايا الوجود الذاتي لها أبعادها الجمالية وخصوصيتها المعنوية وأطرها التعبيرية التي تدفع بكينونتي إليها منذ طفولتي التي كثيرا ما أدخلتني إلى عوالم كثيرة بما تحمله من أشرعة تحلق بي إلى عوالم هي أشبه بأحلام ورؤى. وبات يقيني أن عملية ممارسة الحكي والسرد تحتاج لاستكشاف الحياة وقضاياها المغمورة والظاهرة، حتى أضحت نفسي تقتات الكلمات في مرحلة الصبا، من أجل البحث عن شيء تهدأ إليه نفسي كي تبحر في أعماق إدراك ما يحدث حولي بحلوه ومره، بضعفه وجبروته، قبوله ورفضه. بينما الكتابة النقدية تحتاج للتعمق والقراءة وضبط الأفكار والرؤى والفكر والوقت، لاستجلاء أجناسه ومصطلحاته ومعجمه، نثرا كان أم شعرا؛ خاصة أني لا أكتب إلا عن موضوع يستهويني، أو نص يستثير مكامني وفكري. لذلك كثيرا ما تصارعني فكرة إبداعية وأنا في خضم دراسة نقدية، فأشعر بالضيق وربما الحزن، لكن مع التخفف بيقين الله، والتصالح مع ذاتي بوضع خطة تنظيمية لعملية الإنجاز حتى تهدأ النفس، وتسير أموري كما أردت لها.

عندما أكتب نصا إبداعيا أدخل إليه خالية من أي تأثيرات تعلمتها ودرستها، فأنسى كل نظريات النقد، وأغوص في عمق ثيمة الفكرة التي أكتب فيها، وأعبر عنها، اعتقادا مني أن نص الرقيب يضعف الفكرة، وقد يحملني ما لا أطيق، ويجعلني أفكر في مراقبة النص أكثر من فحوى القضية التي أريد الكتابة عنها، لكن هذا لا يمنع بعد الانتهاء من مراجعته وتهذيبه وتشذيبه كما يفعل أي قارئ؛ بمعنى أنظر للنص المكتوب نظرة القارئ المتذوق لا نظرة الناقد الفاحص.

باعتبارك ناقدة ومهتمّة أكاديميّاً بالنتاج السردي العربي، كيف تنظرين إلى واقع الرواية العربية اليوم؟ وهل ساهم – في نظرك – عنصر التجريب في تطوير أشكالها واتجاهاتها الفنية؟

الحديث عن الرواية العربية المعاصرة، وما تطرحه من أنماط تعبيرية، وقضايا معرفية يحتاج إلى وقفة نقدية لتقييم مسار الكتابة فيها، وتجلي أبرز القضايا التي تناقشها، والفنيات التي كتبت فيها، والأهم دور التلاقح الثقافي في تشكل آفاقها المعرفية والفنية يوما بعد آخر، أمام تطور مجريات الحياة وتقادمها السريع في إطار تعميق الدرس، وفتح باب الحوار حول قضية النوع الروائي الذي يكتب فيه الكاتب، ومدى استفادته من التجريب. فلم نعد نقرأ قالبا واحدا تنبني عليه الروايات فنيا، علاوة على الثيمات التي ترتكز عليها، وصارت تهتم فيها الرواية العربية والعالمية معا، ناهيك عن النوع الروائي. فما حدث من متغيرات تزامنت مع تحولات المجتمع العربي ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، صرنا نقرأ روايات تتجاوز الاجتماعي والمحلي إلى الوجودي والإنساني. وهذا ما جعلها تبحث عن هوية خاصة بها، مقارنة بالأشكال التعبيرية الأخرى التي تتأسس على المرجعيات، مستفيدة من أدب الذات كالسيرة والمذكرات واليوميات وغيره، وفاتحة لنفسها مسارا رحبا على رؤى التجديد وأطر التجريب، ومخترقة الحدود التقليدية المتعارف عليها في بنية الرواية، وهذا في حد ذاته جدير بالنظر والمتابعة. فدخول الروائي عوالم جديدة، وتقنيات تجريبية حديثة من خلال انفتاحه على عوالم الآخر، واستقائه من ثقافته أسهم – بلا شك – في تطور أشكال الرواية العربية واتجاهاتها الفنية. والسؤال الذي علينا أن نقف عنده؛ هل استطاعت الرواية العربية أن تتجاوز حدود الذات/ الانغلاق للخروج إلى حيز أكبر وأوسع لسبر واقع الإنسان أمام التحديات المعاصرة للكشف عن الأقنعة الزائفة التي تتلبس ذات الإنسان، واستكشاف قضايا جديدة، وفق معايير إنسانية تأخذ مساحتها بقوة صوب حمولة واقع الحياة المباشر وما تفرضه معاييرها الإنسانية الخاصة بكل مجتمع وبيئة.

لقد أصبحت الرواية العربية اليوم تنفتح على آفاق تجريبية أرحب، طارحة تساؤلاتها وقضاياها ومستفيدة من الموضوعات الحياتية والبنى الفنية الحديثة للرواية الجديدة. فقضايا الرواية العربية هي قضايا المجتمع العربي وتحولاته، وأصبح الروائي يدرك أهمية البنية الفنية التي يبني عليها نصه الإبداعي متجاوزا الحدود التقليدية، ما مكنه من الاهتمام بجوهر الحداثة الذي لا يقصي موروثه المعرفي، ومخزونه الثقافي، وهذا كله رهين بأن يمنح الرواية العربية وعيا يتجاوز الماضي ويحاور الحاضر، لصناعة المستقبل، ضمن حدود معرفية تمكن الروائي من مسايرة الحراك الأدبي والثقافي، من خلال انفتاحه على آداب الشعوب الأخرى، وتعاطيهم مع فنيات تجعل النص يقوم بدوره في التأثير الوجداني الجمعي، وتشكيل الرأي العام، من منطلق معرفته ومراسه بمقومات النص السردي الحديث وتقدير إشكالاته الفنية.

وسط فورة الإبداع التي تشهدها الرواية النسوية العربية المعاصرة، ما موقع الرواية الخليجية، والعمانية خاصة، داخلها؟ وهل استطاعت المرأة الكاتبة أن تتجاوز نفسها وتكتب نصّها المنشود رغم هيمنة النسق الذكوري؟

الرواية النسائية في الخليج ليست بمعزل عن الرواية النسائية في الوطن العربي الكبير، وهي سائرة في تقدم باعتبار أن المرأة الخليجية صارت جزءا من منظومة عربية لها خصائصها وهمومها وإشكالياتها. وقد أصبح لها الآن حضورها وتجلياتها وقضاياها التي تستطيع من خلالها محاورة المجتمع العربي أمام المفاهيم والأطروحات التي تتوالى على مجتمعها يوما بعد آخر؛ ناهيك عن إدراكها لهمومها العربية، ووجعها الإنساني، معانقة فيه الهموم الأكبر والثيمات الأرحب. فالكاتبة في الخليج في قلب المجتمع وقضاياه وتنويعاته وتحولاته، إذ قطعت مسارا كبيرا بروحها التواقة إلى التغيير الدائم، وتجاوز التحديات المجتمعية، وإبراز عوالم من الشخصيات الروائية التي تغوص في الميثولوجي، وتبحر في التاريخي، وصولا إلى الإنساني. كما استطاعت بنصها الروائي أن تتجاوز القيود في مجتمع يهيمن عليه النسق الذكوري؛ خاصة ما اتصل في مجال السرد الاعترافي الذي بقي حتى الآن يحضر بخجل. إلا أن هناك تفاوتات لم تزل – باقية تحتاج لزمن تستطيع فيه الكاتبة البحث في الظواهر والتجليات التي تمكنها من البحث عن موضوعات أكثر جرأة وشفافية ومصداقية، متجاوزة ذاتها وعوالمها الخاصة وبيئتها المحلية.

لم تعد الحدود بين الأنواع الأدبية قائمة، بل وجدنا تقاطع السردي مع الشعري. إلى أي مدى أفاد هذا الأمر بناء قصيدة النثر العمانية ووسّع أشكال تخييلها للذات والعالم؟

قضية الأنواع الأدبية قضية شائكة، خاصة مع استفادة نسقين كبيرين (الشعر والنثر) كل منهما من تقنيات وأشكال ووظائف الآخر. فلم تعد الحدود الأجناسية قائمة على صياغات محددة، ما حدا بالشاعر أن يكتب قصائد جميلة مستفيدا فيها من تقنيات السرد، والعكس كذلك نلحظه؛ فكثيرا ما يستفيد السارد في تعبيراته وأساليبه من تقنيات القصيدة، لذلك يُطرح العديد من الأسئلة على القارئ والناقد معا، بالنظر إلى بحث إمكانية تصنيف أنواع القصيدة/ الشعر، والبواعث التي دعتنا إلى تسمية قصيدة التفعيلة أو الحرة أو النثر، علاوة على ظهور نصوص تجريبية لا تعلن عن نوعها وتصنيفها. لقد أصبحنا أمام قضية مهمة، وأصبحنا نجد الكثير من الجماليات والقضايا والتعبيرات أمام هذا النوع من (قسمة الشعر). يقينا منا أنه لا توجد حدود فاصلة بين هذه الأنواع، طالما ان الجمال الفني أو التعبير الوجودي يسكنها. والقصيدة في عُمان ليست بمعزل عما حدث من تطور في بنية القصيدة العربية، فقد عرفت ذلك من منتصف السبعينيات على يد سيف الرحبي وسماء عيسى، وتلتها أسماء أبدعت في مزج السردي بالشعري في إيصال صوتها وقضاياها، وتشكيل بنيتها وتقنياتها. والقارئ في هذا النوع من القصيد (قصيدة النثر أو التفعيلة) في عُمان سيجد مساحة رحبة في سياقات تعبيرية، تجاوز فيها الشاعر حدود القصيدة التقليدية، مستفيدا من تقنيات السرد وما يحمله من خصائص أسهمت في بناء قصيدة حديثة عما خلفه الأسلاف، شكلا ومحتوى.

فقد استفاد الشاعر العماني في قصائده من المحتوى القصصي، فنجد القصيدة مكتملة عناصر القصة، ويكون الحدث مخترقا لبعض تقنياتها، ونجد قصيدة المقطع الطويل، أو المقاطع المتعددة ذات الموضوع الواحد أو المتعدد، وصولا إلى استفادته من القصة القصيرة جدا؛ وهي القصيدة الومضة. كما نجد تعدد الصورة البلاغية عند تشكل بنية الحدث، فهناك الرؤيوي، والأليغوري، والوجودي، والرمزي، وغيرها. كما أن الشاعر اهتم بتجديد المحتوى السردي والاستفادة من تقنيات السيرة الذاتية والغيرية، واليوميات، والمذكرات، وغيرها مما ينضوي تحت الأدب المرجعي، وما يحمله من وظائف تستحق النظر والالتفات، كبناء قصيدة حكائية لواقعة وحادثة تاريخية، أو لعَلَم مرجعي، ومعلم تاريخي، مستفيدا من عوالم الأسطورة والفنتازيا والميثولوجيا عن طريق الراوي الذي يقدم شهادته ورؤيته وأيديولوجيته بقالب شعري/ حكائي فيه الكثير من اللغة الشعرية ذات البنية الحكائية، ومقتربا من الحديث اليومي، واللغة العادية؛ فتأتي القصيدة أشبه بالانثيالات العاطفية في سبيل الانتقال بنا من الرؤية المحلية إلى القومية فالعالمية، ومن الانغلاق على الذات إلى الانفتاح على عوالم الوجود والإنسانية عبر توظيف المساحات البيضاء، والفراغات من مقطع لآخر، والتركيز على علامات الترقيم التي تمنح النص دلالات شتى على المستويين البنائي والنظمي.

كيف تنظرين إلى مستقبل الثقافة العربية اليوم؟

لعل هذا السؤال يتطلب منا معاينة لمعنى الثقافة العربية أمام سطوة التفجر المعرفي والتقني، وقدرتها على مسايرته دون التنازل عن الهوية الحضارية، وتقدير أثر تعميق الهوية الثقافية العربية من أجل استشراف تكويننا الحضاري والمعرفي أمام التحديات العالمية. فمستقبل الثقافة هو مستقبل الإنسان، فإذا كان الإنسان مهزوما سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، سيكون مهزوما ثقافيا ومعرفيا وفكريا. فنحن نعيش أزمة ثقافية يعاني منها المثقف، وعلينا أن نتجاوزها بعيدا عن الدعاوى السياسية والاقتصاد وما يبثه الآخر من ثقافته وحضارته؛ حتى لا نكون أسرى لكل ما يحمله الغرب لنا. صحيح أننا بحاجة ماسة إلى فكر الآخر وثقافته وأدبه لأجل المثاقفة بين الشعوب، لكن في مقابل ذلك علينا تكوين شخصيتنا الثقافية والفكرية الخاصة بنا كشعوب لنا تاريخنا وحضارتنا. ولعل الحديث عن مستقبل الثقافة العربية يدعونا للتساؤل: من هو المثقف؟ كما يقودنا إلى الحديث عن واقع الثقافة العربية، وأزمة المثقف، وحال الإنسان العربي أينما كان في بلده أو مهجره بما يواجهه من تحديات فرضتها العولمة الثقافية على ثقافة الشعوب عامة. فلا حديث عن مستقبل أي ثقافة دون النظر إلى واقعها بكل ما يحمله من انهزام وانتصار، فشل ونجاح، حاجة واكتفاء، أزمة ورخاء. فالواقع الحالي يشير إلى إشكاليات كثيرة تتعلق بانتساب العربي إلى ثقافته وهويته، وهناك أزمات عديدة فرضت على شريحة من المثقفين ليتعايشوا معها، علاوة على المعضلات التي تواجهها ثقافتنا أمام مقاييس الثقافة العالمية واعترافها بواقع ثقافة العربي وما يقدمه من رسائل حضارية، ووسائل مادية لها علاقة باستثمار الفكر والثقافة في جوانب الحياة المختلفة. وأمام سيطرة العولمة الثقافية وتماسها لحياة الشعوب ومعارفهم ولغتهم، بدا إقصاء ثقافة كل الشعوب التي تعيش شتات القهر السياسي، والظلم الاجتماعي، والتدهور الاقتصادي أمام الانبهار بالآخر الذي يصعب أن نرى فيه مستقبلا لهذه الثقافة بمعزل عن الاستقرار السياسي والأمني من أجل القدرة على الاستثمار الثقافي والفكري والحضاري. وإذا سلمنا بأن الثقافة تعني كل ما ينتجه الإنسان لإبراز هويته الخاصة به، والتي تميزه مهما اتسع المكان على مر الأزمان، يأتي دور المثقف المتوازن فكريا ورؤية، المثقف الذي عليه أن يتصدر المشهد اليومي بما ينتجه من مخزون فكري ومعرفي.

إننا أمام أزمة كبيرة تعيشها الثقافة العربية، ولعلي لا أبالغ في القول إن الثقافة أصبحت من أبرز المعضلات التي يعاني منها الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج وسط عالم متعدد الثقافات والطوائف والإثنيات والأحزاب، كل ينتصر لثقافته وفكره وحضارته وحزبه. لذلك نحن بحاجة إلى تجديد التراث بنزعة إنسانية قوامها التفاعل والتمازج، والانفتاح على ثقافة الآخر وتقبله بما يثري المنتج الأدبي والفكري والثقافي، ومن أجل تحقيق الاستثمار الثقافي، وإبراز هوية الثقافة العربية بنصوص أدبية (شعرية أو نثرية) تحاور الآخر وتتقبله وتفرض سيادتها المعرفية.








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي