الأديب الفلسطيني محمد علي سعيد يستعيد قصة والديه الملحمية في الجليل

2022-09-27

وديع عواودة

يقول المثل الشعبي إن الضربة التي لا تقصم الظهر تقوي من يتعرض لها، وهذه قصة الأديب الفلسطيني الناقد محمد علي سعيد، ابن بلدتي شعب وطمرة قضاء عكا. سعيد حرمته إسرائيل عام 1948 من طفولة طبيعية، وعايش ظروفاً معيشية صعبة بسبب النكبة وتداعياتها، لكنه قرر اختراق حدود اليأس والمستحيل، فكان يحرم نفسه من الطعام كي يشتري كتاباً، واستكمل تعليمه الجامعي وبات اسماً بارزاً في التربية والأدب والكتابة، وهو اليوم صاحب أكبر مكتبة شخصية في البلاد. الأديب الفلسطيني في مدينته طمرة، مكان إقامته الحالي، وهو ابن عائلة مهجّرة من بلدة شعب قضاء عكا، ووالده الثائر الراحل نشط في المقاومة ضمن حامية البلدة بقيادة المناضل القسامي الراحل إبراهيم الشيخ خليل (أبو إسعاف)، وهذا ما دفع السلطات الإسرائيلية للتحامل على قريته وأهاليها الذين هجرتّهم إسرائيل مرتين، ووطنّت بدلاً منهم مهجرّين من مناطق أخرى، خاصة من الحولة.

قصة محمد علي سعيد واحدة من قصص البقاء الملحمي لفلسطينيي الداخل، فقد كان والده من المغضوب عليهم من قبل إسرائيل، لكونه أحد ثوار بلدته شعب قضاء عكا خلال نكبة 1948، وعضواً في حامية الشيخ المجاهد القسامي إبراهيم الشيخ خليل (أبو إسعاف). وحسب شهادة الابن الكاتب محمد علي سعيد، نقلاً عن والدته الراحلة حنيفة أحمد مصطفى أسدي، وهي سيدة جريئة، قولها إن والده علي أحمد محمود سعيد قد خشي من الانتقام الإسرائيلي بعد احتلال قريته شعب وتهجير أهلها، ولذا نوى عدم البقاء مع الكثيرين من أقاربه ممن وصلوا منطقة الشاغور في الجليل الأعلى كمهجّرين، والانتقال إلى لبنان مع خطيبته حنيفة الأسدية.

ويتابع: “في البعنة التقى والدي الأديب الراحل حنا إبراهيم من قرية البعنة، الذي اقترح عليه الزواج، بدلاً من الانتقال إلى لبنان، بغية تثبيت البقاء والحصول على بطاقة هوية زرقاء(إسرائيلية) من خلال تكوين أسرة والاستعانة بالمحامي حنا نقارة “محامي الأرض والشعب” الذي دافع عن المهددين بالطرد بدعاوى قضائية، وساهم في تثبيت المئات من فلسطينيي الداخل، وهكذا حصل.

 وبنصيجة الراحل حنا إبراهيم بقي والده، وفعلاً لقد جرى العرس بلا عريس عام 1950 في البعنة، وأحاط شباب القرية بحفل الزفاف لحمايته من الوشاية والمداهمات، فكان والدي في ليلة زفافه مختبئا في المناطق الوعرية المحيطة بالبلدة، ووالدتي كانت “مصمودة ” في أحد بيوت عائلة التيتي في قرية البعنة. وبقي والده مطارداً، وطردته إسرائيل إلى لبنان عدة مرات، وكان يعود متسللا كل مرة من جديد، ويقول مبتسما إنه لا يعرف كيف دخل والده على والدته، “لكنني ولدت وإخوتي”.

 جرى العرس بلا عريس، وأحاط شباب القرية بحفل الزفاف لحمايته من الوشاية والمداهمات، فكان والدي في ليلة زفافه مختبئاً في المناطق الوعرية، ووالدتي “مصمودة ” في أحد بيوت عائلة التيتي.

وبعدما حملت الوالدة تعرضت للكثير من الشقاء والمداهمات الإسرائيلية المتتالية، وعن ذلك يقول الأديب: “من المفارقات أن جنديا إسرائيليا سأل والدتي في واحدة من مداهمات البيت، وقد كانت حاملا بي، فسألها بلغة عربية مشوهة: “يا خرمة قليلي وين بتخبى علي؟ احنا بدنا نعتقله لسنة واحدة ثم نفرج عنه ويصبح حرا”. فقالت:”لا أعرف. فقال: كيف لا تعرفين وأنت حامل؟ فقالت: أنا لا ألتقيه. فقال: كيف؟ أنت حبلى، أنت تكذبين. فقالت: لا أكذب. أنا حبلى من الله. فقال: أنت مريم العذراء. فقالت غاضبة: نعم أنا مريم العذراء الثانية… منيح؟

شهامة الصديق

وبقي والده مطارداً فهو مغضوب عليه من إسرائيل، وأحياناً يبيت في الوعر، وأحياناً لدى أقارب، وفي إحدى المرات جاء من لبنان واحتمى داخل بيت صديقه حسين منصور فسارع الجيش لتطويقه. وعما حصل داخل البيت يضيف محمد علي سعيد: “عندها طلب والدي تسليم نفسه كي لا يحرج صديقه صاحب البيت فرفض صديقه وكان “فتوة”، وقال هل تريد أن يقول الناس إنك ضبطت داخل بيت حسين المنصور؟ قام الصديق بدفع والدي نحو زوجته خضراء، التي كانت داخل الحمام عارية تماماً، فخجل والدي، وتردد، لكن زوجها، وبسبب صداقته المتينة مع والدي، دفعه عنوة حتى أدخله الحمام وهو يقول له: “خضراء مثل أختك”. وينقل سعيد عن والده تتمة التفاصيل: “اقتحم الجنود البيت وسألوا عن علي فقال حسين منصور: “تتوهمون أن علي موجود في كل مكان وكأنه شبح”! فقالوا: نحن نتتبع أثره من لبنان حتى هنا ونريده حياً لا ميتاً. فقال صديق والدي لهم: علي ليس هنا وعندما همّوا للتقدم صوب الحمّام استل عصا وهدد بضربهم، وكان شابا متين البنية وأنذرهم أن زوجته داخل الحمّام، وهي من طرفها سألت من خلف الباب عن الضجة بالقول: “شو السيرة يا حسين؟ وعندما سمع الجنود صوت امرأة غادروا البيت. وهكذا ولدتُ أنا محمد (1951) وشقيقاي: (توفيق ووفيق) بصورة سرية، وكما نقول: مهربين وشرفوني باسم عمي الشهيد محمد، الذي استشهد مع صديقه توفيق أيوب من قرية شعب، مع شيخ المجاهدين عز الدين القسام في أحراش يعبد، وتمّ التمثيل بجثته التي أخذها أهل عرعرة الكرام”.

قصة ملهمة

 وكان الأديب محمد علي سعيد قد كتب عن الحادثة هذه في واحدة من قصص الحب الأدبية، وقال منهياً قصة الحب: “عندما كان بإمكانه أن يراها عارية، وهو الذي عرّاها كثيراً بخياله الشرقي الشبقي رآها بكل ثيابه المحتشمة”. وعمّا تركته هذه القصة المستوحاة من الواقع يقول: “بفضل هذه القصة التي أعجبت النقاد ترجمت قصصي الكاملة للإنكليزية”.

وبقي والده مشّرداً، واضطرت والدته للعمل ليلا نهارا في الحصاد وفي الزيتون لتأمين لقمة العيش واحتياجات التعّلم: “لم نكن محرومين من شيء. تمتعت والدتي بشخصية اسبارطية في تربيتنا نحن الإخوة الثلاثة (توفيق وشفيق ومحمد). كانت تصدر تعليماتها العسكرية، لكنها لم تحرمنا من شيء”.

 يحرص سعيد على استذكار بعض المبادرات العصامية لوالدته بالقول: “أصل أخوالي من دير الأسد. كان بحوزة والدتي كتاب استرحام يتضمن قصتها كمعيلة لأسرة وحيدة. بعدما دقت أبواب مسؤولين إسرائيليين كثراً، دون جدوى. سمعت في 1961 بأن الوزير يغئال ألون يستعد لزيارة الدكتور محمود العباسي في مدينة شفاعمرو فاصطحبت شقيقها ودخلت الديوان، فصار الرجال هناك يتذمّرون من دخول امرأة مجلسهم بخلاف التقاليد العربية. لكنها لم تكترث بهم وبملاحظاتهم وخاطبت الوزير الإسرائيلي وسردت على مسامعه قصتها. بطلب من الوزير أخذ العباسي رسالة والدتي، صاحبة الشخصية القوية، ويستلهم منها محمود العباسي مسرحيته “العمر ليلة واحدة”. عاد والدي من لبنان واستقر عام 1961 بفضل لم شمل عائلات فلسطينية”.

ما علاقة قصة والديك برواية الياس خوري “باب الشمس”؟

“من روى القصة داخل المستشفى للكاتب الياس خوري هو سعيد محمود عبد الهادي صالح أسدي، من بلدتي شعب قضاء عكا، الذي تزوج على طريقة والدي عام 1940 ورزق خلسة بمحمود وبمريم لاحقا، فسعيد الصالح لم يعد من لبنان، بل بقي هناك، بينما بقيت والدته هنا في البلاد. وأرجّح أن الياس خوري سمع منه قصة والدي، واستلهمها أيضاً في روايته “باب الشمس”.

رابطة الأدباء الفلسطينيين

كان لمحمد علي سعيد مساهمة في تأسيس روابط الأدباء عام 1987، ونقابة الأدباء وغيرهما، وكان آخرها: الاتحاد العام للكتاب الفلسطينيين الكرمل 48. كما عمل محرراً أدبياً في عدّة صحف ومجلات أدبية منذ بداية الثمانينات، وحالياً، يشغل منصب: رئيس تحرير مجلة “شذى الكرمل”، الصادرة عن اتحاد الكتاب الكرمل 48.

أكبر مكتبة شخصية في البلاد

يملك الأديب محمد علي سعيد مكتبة شخصية عملاقة داخل منزله جمع كتبها طيلة سنوات العمر، وعلى نفقته، وهي ثمرة حبه للمطالعة. ورداً على سؤال يقول إنه بدأ المطالعة منذ الصف الخامس الابتدائي (كتاب حي بن يقظان)، وما زال يقرأ يومياً أكثر من عشر ساعات: “كنت أسافر إلى عكا/ الناصرة بواسطة الباص، أضع ثمن التذكرة في جيبي، وبالباقي أشتري كتباً وأعود جائعاً.. وما زلت من المدمنين على شراء الكتب. في بداية زواجنا كنت أسمع محاضرة من زوجتي كلما رأتني أعود متأبطاً كتباً، فصرت أهرّب الكتب كما المخدرات، وأدمنت زوجتي رؤيتي مع الكتب فسكتت، وأصبحت تتمتم وتقول: الله يهديك يا محمد، (ولا أعرف لماذا لم يهدني الله حتى الآن).

 أرجّح أن الياس خوري سمع قصة والدي من سعيد محمود عبد الهادي صالح أسدي، واستلهمها في روايته “باب الشمس”.

المؤلفات في الأدب والنقد

 أصدر الأديب الناقد محمد علي سعيد أكثر من عشرين مؤلفاً في مجالي الأدب والتعليم، ناهيك عن عدّة كتب ناجزة للطباعة. من كتبه: الباكورة: مسافر في القطار 1972، ثلاث مجموعات قصصية، موسوعة هي الأم، كنوز اللغة العربية، الكتاب خير الأصحاب، فهم المقروء، قراءات في الأدب المحلي. كذلك معجم الشعراء في فلسطين الـ 48، معجم الوفاء للراحلين من الأدباء 2020. حزازير شعبية وأسئلة خفيفة دم 2021. وقريبا سيصدر له كتابان: علامات الترقيم والإملاء، 365 فائدة لغوية، فنجان شاي- قصة للفتيان.

الأسرة والإقامة في طمرة والتطوع

بسبب الظروف الأسرية القاسية عمل الأديب الناقد محمد علي سعيد طيلة فترة دراسته الابتدائية والثانوية راعياً كي يشارك في تأمين العيش الكريم للأسرة في ظل وجود والد مبعد عنها.

 أنهى الأديب محمد علي سعيد تعليمه الثانوي في مدرسة يني يني في بلدة كفرياسيف عام 1969، وعمل فورا في مهنة التعليم، ولاحقا التحق بدار المعلمين العرب في حيفا، وفيما بعد في جامعة حيفا. وعن تلك الفترة يستذكر: “وقتها عندما ذهبت للجامعة متأخرا كنت قد بلغت الأربعين من عمري، وذلك بإلحاح من أصدقائي الأدباء حنا أبو حنا وفهد أبو خضرة وإبراهيم طه. وعمل سعيد معلما للغة العربية ومرشدا ومفتشا لها في قسم المناهج ومحاضراً في الاستكمالات المدرسية منذ تخرجه عام 1974 إلى أن خرج إلى التقاعد عام  2005، لأسباب مرضية: “لكن التقاعد عندي ليس استكانة، بل المزيد من العطاء فهي بالنسبة لي حياة جديدة”.

في السيرة الذاتية تقول إنك لا تذكر أنك كذبت أو سرقت حتى كوز رمان أو نقلت كلاماً سبب مشكلة أو تأخرت في السهر عند صديق. وإن تربية أمي كانت اسبارطيةً وعلى المسطرة. إلى هذا الحد؟ هذه سيرة رجل صوفي أو راهب فرنسيسكاني؟

“كان يهمها أن تضرب الناس بها مثلا في تربية أبنائها رغم غياب زوجها. وللأمانة وبكل تواضع كان لها ما أرادت، وخاصة في ما يتعلق بي. وأخيرا وليس آخرا: أنام مرتاح الضمير جدا. شعاري: الانتماء دواء لكل داء، وسعادتي في العطاء، وأعتز بنظافة وطنيتي وأخلاقي ويدي، يوجد مثلي، ولكن لا أحد يزاود عليّ. وكلما ازددت علما زادني علمي بجهلي.

والحمد لله هذا ما أحاول نقله لأولادي وأحفادي، فأنا متزوج منذ عام 1978 ولي ابن وأربع بنات، كلهم أكاديميون ومتزوجون ولي 13 حفيداً”.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي