كل خديعة ونحنُ بخير

2022-08-19

ذكرى لعيبي

ـ كيف أنتِ؟

ـ كيف أنا وكأني طفلة صغيرة، تفترشُ الأمنيات على الأرصفة بغيابهِ.

ـ هل تزعلين لو قلتُ لكِ أنتِ المخطئة؟

ـ لا.. لا أزعل؛ أعرف يا صديقتي أنا المخطئة، ظننته يختلف عن طباع الرجال الشرقيين كونه عاش فترة طويلة بعيدا عن الشرق.

ـ الرجل الشرقي؛ يبقى تفكيره شرقيا مهما ادعى إيمانه بالتحرر، الرجل الشرقي يغادر العادات والتقاليد التي تخالف أهواءهُ فقط، الرجل الشرقي عندما يتغرّب يصبح كائنا منشطرا.

تركتها غارقة بدمعها وخرجتُ أسابق الوجع الذي في داخلي إلى موعدي مع طبيب الأمراض الصدرية.

كانت تبكي بحرقة كبيرة، بقهر، بندم.. وبحب عميق أيضا.

قررتُ أن أهاتفهُ وألتقي بهِ لأعرف سبب انقطاعه عنها، أو في الحقيقة لأواجهه بسوء فعله، ثم عدلت عن قراري، لا أحب الجبناء، ولا الرجال الذين يجعلون من قلوبهم معابر ومحطات. هي وثقت به وظنته الحبيب المنتظر بعد سنوات الضيم والخذلان، لم تطلب منه علاقة حب عادية، كانت تريده رفيقا أبديا، جعلته لصق ضلعها ونبض قلبها، كانت سعيدة بهِ، أخبرتني عن لهفته قبل اللقاء الأول، عن اشتياقه وتواصله بعد اللقاء الأول، أحاديثهما الطويلة عن تلك الأغنية، وذلك الفنّان، وهذا الشاعر، وتلك المدينة، عن برجيهما، علاقاتهما، أمنياتهما، كانت تريده أن يكون موجودا كما هو في أيام ليس لديها القدرة على تقبّل أي أحد سواه.. لكنه أهملها بعد اللقاء الثاني، بشكلٍ أدّق بعد معاشرتها. اتصالاته باتت شحيحة جدا، وإن أصابها طارئ ولم ترسل له تحية الصباح، الأمر عادي جدا، لن يبادر ويرسل أو يسأل.

أي حب هذا؟ الحب بكل بساطة واختصار: احترام، اهتمام، سؤال، وصال، تفقّد، أفعال.. ما عدا هذا أعتبره خارج نطاق الحب، قد يكون إعجابا أو أي مسمى آخر.

بعد أن انتهيت من مراجعة الطبيب، ذهبتُ إلى مخبز قريب من العيادة لأشتري صحن فطائر شامية بالجبنة والزعتر والسبانخ والمحمرة الحارّة التي أعشقها، ثم رجعتُ إلى شقتنا، لأجد صديقتي كما تركتها:

ـ أنتِ مجنونة؟ ما زلتِ تبكين؛ لأجل مَنْ؟

ـ كنتُ أنا الصادقة بحبي دائما، أتغيّر من أجل من أحب، أضحّي، أقدّم مشاعري على طبق من نور، لأكتشف في النهاية أنهم وجدوني في طريقهم في وقت شعورهم بفراغ، لحظات احتياج لمن يسد هذا الفراغ، كمن تعثّر بقربة ماء وسط صحراء، متى ما ارتوى ظمأهم تركوها.

ـ المشكلة فينا، ضعفنا أمام مشاعرنا، ثقتنا، يا حبيبتي علينا أن نتخلى عن هذه الطيبة الزائدة، وأن لا نعكس دواخلنا النقية على كل من نقابلهم أو نصادفهم في حياتنا، الأنانية بالمشاعر مطلوبة في وقتنا الحاضر، مواجهة المخادع بحقيقته مطلوبة، علينا عدم التشبث إلا بمن ينتشلنا من أحزاننا ويتحملنا ويدللنا ويؤمن بمشاعرنا، هؤلاء فقط يستحقون السُكنَى في أرواحنا.

ـ أنا جدا متعبة صديقتي، جدا…

ـ من حبكِ لهُ، أم من الأثم الذي ارتكبته معه، أم من ماذا بالضبط؟ على فكرة نويت أن اهاتفه وأتحدث معه، لكن خشيت ردة فعله وبصراحة لا يعجبني الحديث مع رجل يكسر قلب امرأة.

ـ متعبة من نفسي، من تعلّقي به، كيف آمنت به وظننت أنه الوطن الذي أبحث عنه؟ كيف تعريتُ أمامه بأفكاري وأحلامي ومن ملابسي؟ كيف تجرأتُ على كل هذا؟ كيف؟

ـ حصل ما حصل، عندما نحب بصدق نعطي، نمنح المحبوب حتى جلودنا التي تسترنا، هذه ليست خسارة صديقتي، خسارته هو أكبر ثقي، وسيعرفها بعد أن تلطمه امرأة لعوب، نتجاوز الغياب الكبير والخيبات الكثيرة متناسين ولسنا ناسين، لنستمر في الحياة.

هيّا انهضي لنتعشى قبل أن تبرد الفطائر وتفقد لذّتها، سأعمل قدحي شاي ساخن..

نعم كنتُ أحدّثها بهدوء، لكن أوارا يغلي في داخلي مثل مِرجـَل من طين ناره مستعرة من سنين، موجة غضب تجتاح كياني وكأني أنا صاحبة هذه الخيبة؛ قهر ذكّرني بخيباتي المرّة التي تتوإلى عليّ المَرّة تلو الأخرى، كان لا بد من فعل شيء الآن.. هذه اللحظة.. لتهدأ موجة الغضب الوقحة، لم أجد حيلة غير أن أكسر أحد الصحون وأتظاهر أنه سقط من يدي كي لا تشعر صديقتي:

ـ أوووف ربي، لماذا نشقى وقلوبنا ممتلئة بالحب؟

تشظّى الصحن على الأرض وكل شظية ذكّرتني بكسرٍ ما.. كسر ظهري عندما مات والدي، وكسر ضلعي عندما غادرتُ وطني، وكسر قلبي عندما تزوج رجلي عليّ، وكسر روحي عندما غدر بي الأقارب، وكسر خاطري عندما أعطتني الدنيا ظهرها وسرقت المسرّات من عمري.. تلاشت قواي أمام هذا الزخم من ذكرى الانكسارات؛ فهويت بوجهي على المنضدة القريبة ورحتُ في نوبةِ بكاءٍ جزع.

ـ نحنُ قوِيّات.. ألم تقولي هذا دائما؟

قالت جملتها هذه وهي تمسح دمعتي بيمينها، وبيسارها تمسح دمعتها، ما جعلني امتدُّ بنوبة بكائي أكثر..

ـ ضعفتُ من حجم قوتي، تعبتُ.. فجأة وجدتُ نفسي أمام مسؤوليات تفوق طاقتي، أمرض بمفردي، دون يد تطعمني ملعقة حساء أو تربّت على وجعي، انجرح وأضمّد جرحي بصبري، اتعثّر وأسقط وأنهض وأسير على الجمر مبتسمة وفي داخلي قهر كبير وحزن وألم؛ فقط لأثبت للعالم أني قويّة، تعبت، تعبت من قوتي المزيفة هذه.

لو كان هناك رجُل واحد فقط صادق معي، يحبنّي، يحتويني، يُعينني على نوائب الدهر، يجعلني من أساسيات يومه، والله لأقمتُ له وطنا في روحي وقلبي وفديته بروحي، وربما لاضمحلت معاناتي واندثر هذا الانكسار.

ـ نحنُ قوِيّات.. نحنُ قوِيّات؛ وكل خديعة ونحنُ بخير جدا، كل تجربة نكتشفُ فيها أن المذكّر يعتبر نفسه منتصرا بنيلهِ من امرأة أحبتّه، نجدُ مبرّرا لنغرس «شوكة» أقلامنا في قلبه.

جلسنا نتناول العشاء على نغم صوت السيدة: «وبديت أطوي حنيني إليك.. وأكره ضعفي وصبري عليك.. واخترت أبعد وعرفت أعند.. حتى الهجر قدرت عليه.. شوف القسوة بتعمل إيه».

وصلتْ رسالة منهُ إليها: مساؤكِ النور والعبير، أحبكِ

قرَأتها وعيناها مغرورقتان بدمعة مقهورة.. وبتنهيدة طويلة قالت:

ـ هل الحب كلمة تُكتب فقط؟ تحيّة؟ جملة تصل برسالة باردة؟

ـ ستردّين عليه؟

ـ نعم أكيد، أنا أحببته بكل جوارحي، ومخلصة لجوارحي!

ـ أنتِ حرّة.

كتبتْ له:

لنقدّر ظروف بعض.. اتفقنا؟

أنا سأقدّر أنك مشغول ولا تجد وقتا للحديث معي حتى ولو لدقيقة، أو اللقاء بي حتى لو بالشهر مرّة، أو الأطمئنان عليّ حتى لو كل يومين مرّة؛ وأنتَ قدّر إن أصبحتُ امرأة أخرى.

قاصة عراقية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي