في ضيافة نجيب محفوظ

2022-08-05

فيديريكو اربوس | ترجمة: عبد المنعم الشنتوف

يستعيد هذا النص الذي نقدم ترجمته عن الأصل الإسباني تفاصيل لقاءات المستعرب الإسباني فيديريكو أربوس بالكاتب المصري نجيب محفوظ. ويستعيد الكاتب في هذا الخصوص ذكرياته مع محفوظ أثناء مقامه في القاهرة وبعد الاعتداء الإجرامي الذي كان الكاتب قد تعرض له عام 1994 بسبب «أولاد حارتنا» ودعمه المفترض لاتفاقية كامب ديفيد، التي أبرمتها مصر مع الكيان الصهيوني. يعتبر فيديريكو أربوس أحد الوجوه البارزة للاستعراب في إسبانيا. وقد سبق له أن نقل إلى لغة ثربانتيس نصوصا رئيسية لعبد الوهاب البياتي ومحمد بنيس ونجيب محفوظ وكتاب عرب آخرين.

النص:

أحيت وفاة نجيب محفوظ ذكرى لقاءات جمعتنا في سنوات الثمانينيات من القرن الفارط. وإذا كنت استحضرها الآن مشفوعة ببضع أفكار تهم إنتاجه الأدبي فلكي أقبض على النفس الحي لهذا القاهري الصلب، الذي قاوم تقلبات وهزات هذا الزمن شأن أغلب مواطنيه إلى حدود رحيله في 30 أغسطس/آب. أهتم بوصفي كاتبا وعلى درجة سواء بالتعبير والتواصل؛ إذ اعتقد ان أي نقص يطول أيا منهما فإن واجبي الفني لن يتاح له الاكتمال. يترجم هذا الرأي الذي يعود تاريخه إلى سنة 1988 بدقة نسبية موقف محفوظ على امتداد مسيرته الأدبية. ثمة من جهة البحث المطرد والدؤوب منذ نهاية الثلاثينيات عن أسلوب وإيقاع سردي خاصين وبموازاة جهد متواصل لتأسيس قاعدة لرواية عربية معاصرة حقيقية. وثمة من جهة أخرى توظيف تقنيات ووسائط نشر تروم الوصول إلى شرائح واسعة من القراء المحتملين، ومن مختلف أطياف المجتمع: قصص ومسرحيات نشرت في مجلات وجرائد وروايات منشورة على حلقات في الجرائد، ومشاركة في كتابة سيناريوهات سينمائية؛ وهو ما أتاح للعديد من رواياته وقصصه أن تحضر في السينما والمسرح.

ولد نجيب محفوظ عام 1911 في القاهرة التي لم يغادرها إلا مرة واحدة إلى لندن بغرض إجراء عملية جراحية، في حضن أسرة تنتمي إلى البورجوازية الصغيرة. وتصادفت مرحلة شبابه مع فترة ما بين الحربين العالميتين التي شهدت زخما ثقافيا للطليعة الثقافية الأوروبية، مارس تأثيره في مصر بخاصة، والعالم العربي بشكل عام، وأسهم في تشكل صيرورة مكثفة من التجديد الثقافي وحركة تحرر سياسية واجتماعية. وبتأثير ذلك يعبر عمل نجيب محفوظ مراحل متعددة ويختلط في سياقها ما هو شخصي بما هو جمعي. تأطرت أولى تجاربه الأدبية خلال الحرب العالمية الثانية، وتمثلت في روايات تاريخية كانت وريثة الحقبة ما بعد الرومانسية الأوروبية والعربية. وقد اختار الحقبة الفرعونية بوصفها استعارة بالقوة للحاضر. بيد ان أعماله التي أعقبت ذلك مباشرة، كان لها انتشار واسع وساحق وسط القراء المثقفين والنقاد، وأهلته لأن يكون أحد أفضل الروائيين العرب. ونمثل لذلك بـ»القاهرة الجديدة» 1945 و»الثلاثية» الشهيرة 1956 -1957.

تنتمي هذه الروايات إلى الواقعية الطبيعية، وتمثل جداريات مفصلة للواقع المصري، وتبسط أمامنا بالاستناد إلى العالم المغلق لزقاق أو حي، سلسلة من الشخوص الحية والوضعيات العصية على التجاهل، التي تؤدي غالبا إلى القرف والفظاعة والعجز والإحباط. وبموازاة رسوخ نظام عبد الناصر اختار محفوظ تجريب انعطافة ذكية: يسبق العرض الأيديولوجي المناقض لإصلاحات جمال عبد الناصر أي تحليل للواقع. ويتجلى هنا مرة أخرى تناقض بعض كبار الكتاب، التناقض الذي يتمثل في التعبير الأدبي، عن عيوب ونقائص نسيج اجتماعي تسهم في العمق في تأكيد حضوره الملح. يشكل هذا التناقض في حالة محفوظ مصدر إثراء وتنويع لتجاربه التعبيرية؛ حيث نشهد تقاطع تقنيات سردية قديمة وجديدة. يتعايش التأمل الذاتي للشخصيات الوحيدة التي تعاني من الهشاشة والتردد مع لوحاته الروائية السابقة، المتسمة بتنوعها وتعددها. وتكتسي الرواية الوردية والحالة هذه ألوانا ميتافيزيقية وتتحول الحبكات البوليسية إلى حكاية اجتماعية ورواية سوداء على الطريقة المصرية. تصبح هيمنة السرد الحواري أشد بداهة؛ بحيث تتحول إلى مسرحيات ذات فصل واحد. ونعثر من خلال هذه المادة الأدبية، حسب تعبير سيزار فاييخو على صورة نجيب محفوظ والقاهرة، الشبيهة بعش نمل بزواياها المتعددة، ومصر بكاملها وجزء كبير من التاريخ العربي المعاصر.

كان نجيب محفوظ حين تتويجه بجائزة نوبل، ذا انتشار كبير في العالم العربي وفي الدوائر الأكاديمية المتخصصة في أوروبا وأمريكا. انثالت بعدها الدراسات والترجمات، التي ترجمت أعماله إلى العديد من اللغات، وأعيد طبع الروايات والأبحاث النقدية في خصوصه بصيغة استعجالية. وقد أسهم كل ذلك في إفساح المجال أمام الجمهور الأوروبي والإسباني بشكل خاص في التعرف على أعمال الكاتب. وقد أثار في هذا السياق الاعتداء الوحشي الذي كان قد تعرض له بالسكين عام 1994 والذي كاد أن يودي بحياته، موجة استنكار وإدانة لا نظير لها. ومثلت الصحافة المصرية التجسيد الأقوى لذلك. وحسبما أتذكره فان يوميتين فقط هما من نشرتا الخبر في الليلة الموالية. ويمكنني أن أشهد على ذلك مباشرة لأنني كنت مقيما حينها في القاهرة. أما الجرائد الأخرى فقد التزمت ربما بالمعايير الحكومية الصارمة المتعلقة بالتعاطي مع قضايا الإرهاب. ما أن رفع الحظر في الأيام التي أعقبت الحادث، حتى بدأت الآراء والافتراضات في خصوص ظروف وملابسات الحادث في التناسل والانتشار. تزامن توقيت الحادثة مع الذكرى السادسة لحصول الكاتب على نوبل للآداب. وقد جرى الحديث أيضا عن الصلة التي أقامها المتطرفون في بداية 1989 بين رواية «أولاد حارتنا» و»الآيات الشيطانية» لسلمان رشدي، واستذكر البعض أيضا التهديدات التي تلقاها محفوظ بسبب تأييده لاتفاقية كامب ديفيد. وقد علق بعضهم بأن الحادث تم أثناء توجه الروائي للقاء الجمعة في كازينو قصر النيل، الذي كان يشهد أحيانا مشاركة الإسرائيليين.

كانت كل هذه الذرائع كافية لمتطرفي تنظيمي الجماعة والجهاد. بيد أن السبب «الإجرائي» كان شيئا آخر، ويتمثل في إنجاز عملية بالقليل من المخاطر ودعاية قصوى. فمنذ بداية تلك السنة وبفضل المساعدة غير المباشرة للصحافة الغربية، سعت هذه الجماعات إلى إعطاء الانطباع، بان مسلسلا شبيها بما يحدث في الجزائر يفصح عن بدايته في مصر، من خلال نشر بيانات نارية تهدد بعمليات دامية للثأر لإعدام أعضاء من الجماعة كانوا محتجزين في سجون النظام. وبفضل يقظة الأجهزة الأمنية والافتقار إلى الدعم داخل العاصمة المصرية، فقد اقتصرت هذه الحملة على تفجيرات لا يعتد بها في بعض البنوك والمؤسسات المماثلة وبأضرار مادية وبشرية قليلة. وكان اختيار نجيب محفوظ مشتملا على منحيين إيجابيين: يمثل رجل عجوز ذو مواعيد يومية دقيقة فريسة سهلة ويضمن تنفيذ العملية أيضا بروباغاندا محلية ودولية مؤكدة.

كان من حسن حظ الكاتب أن نقل مباشرة الى المستشفى القريب من منزله، حيث خضع لعملية جراحية كانت فرص نجاحها دقيقة. وقد بعثت باسم معهد ثربانتيس باقة ورد متواضعة اندست وسط مئات الباقات التي حولت، حسبما روي لي أحد طوابق المستشفى إلى مشتل للورود. وبعد انصرام شهر بعثت إليه رسالة استأذنه فيها في زيارته. توصلت بالإذن في شهر ديسمبر/كانون الأول، بيد أن وصولي إلى المستشفى حملني على استحضار مقاطع من رواياته التي وصف فيها العراقيل البيروقراطية للقاهرة. وكان على بطاقة هويتي أن تمر بثلاثة من ضباط الشرطة قبل أن تنتهي عند موظف مدني أدخلني بحنكة الدليل التي يشتمل عليها إلى بناية وقادني عبر ستة من المكاتب. تم إعلامي بان الأطباء لا يأذنون بغير الزيارات التي لا تتجاوز الخمس دقائق. التقيت حين خروجي من المصعد بممرض ومدنيين وشى مخبرهما بالدعابة واللطف رغم رشاشيهما الضخمين. وفي الباب الأخير من الممر علقت لوحة كتب عليها: نجيب محفوظ.. كاتب.

نهض الكاتب حين دخولي إلى الغرفة لتتقاطع بنيته النحيلة مع إطار النافذة. كان ثمة عند حافة السرير الممرضة وزوجته عطية. جلست قبالته بشكل لصيق كي يتاح له سماعي. وحين سؤالي عن صحته مال بحزن على ذراعه اليمنى التي يحركها بالكاد بسبب الجروح التي أثخنتها. كان صوته مشروخا ومتداعيا. وبدا أن صممه وضعف بصره قد استفحلا. بيد أن حركاته ما تفتأ محتفظة بحيويتها والشأن نفسه بالنسبة لابتسامته التي تراوح بين البراءة والمكر. وبعد حديث مقتضب عن الترجمات الإسبانية لرواياته وذكرى الأستاذ مارسيلينو فييخاس مترجم أعماله الذي رحل مبكرا عن عالمنا قبل أربع سنوات افترقنا. وحين التفت كان ما يفتأ واقفا يودعني وذراعه اليمنى مطروحة بجواره، فيما يده اليسرى ترسم ببطء تلويحة وداع مثل طائر عاجز عن الحركة. وكان أن غادرت الغرفة وأنا نهب للانفعالات.

وكي أعود إلى الأسباب الافتراضية للاعتداء على نجيب محفوظ، فإن رواية «أولاد حارتنا» أسالت الكثير من الحبر؛ بحكم أنها شكلت أكبر هجوم ضد حرية التعبير من لدن قوى التزمت الديني. يشكل هذا العمل الذي كتب ما بين 1958 و1959 بعد انقطاع تام عن الكتابة دام خمس سنوات، نقلة من الواقعية إلى الرمزية، ومؤشرا على بداية انتقاد الناصرية. وقد نشرت مسلسلة على امتداد سنة 1959 ولم تخضع في البداية لأي رقابة سياسية. بيد أن السلطات الدينية وجدت تماثلا بين سير بعض أبطال الرواية وبعض أنبياء الإنجيل والقرآن؛ ما دفع بالأزهر، بوصفه أعلى سلطة دينية، إلى المطالبة بحظر الرواية. وكان أن رضخت حكومة ناصر التي لم تكن راغبة في مواجهة الأزهر لقرار الحظر مع تشديدها على عدم متابعة أي طبعات تصدر من خارج مصر.

ما أن حصل محفوظ على نوبل للآداب حتى أصدر الخميني بعد أربعة شهور من ذلك فتواه البائسة القاضية بإعدام سلمان رشدي بسبب «الآيات الشيطانية». ولم يلبث عمر عبد الرحمن المرتبط بتنظيم الجهاد، ان أصدر فتوى مفادها ارتداد نجيب محفوظ وسلمان رشدي. كانت فتوى الخميني إذن صحيحة، وينبغي باعتبار ذلك إعدام سلمان رشدي. بيد أنه يضيف بدهاء محقق محاكم التفتيش: لو صدر الحكم في الوقت الذي نشر فيه نجيب محفوظ «أولاد حارتنا» لاتيح لرشدي أن يتعظ.

اعترض الأزهر على فتوى عبد الرحمن ودافع عن القيمة الأدبية لنجيب محفوظ، دون ان يرفع قرار الحظر إلى الآن عن «أولاد حارتنا». وما تفتأ السيوف مسلطة على رقبة الحرية.

مترجم مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي