ألم الرؤية

2022-08-04

رشيد أمديون

وغسلتِ ساقيك في ماء النهر، فازداد عذوبة، وصفاء، ورَيّا..أو هو من غسل وجهَهُ في نورك يوم قبَّلك كم قبلة عُجلى.. وتَمدَّدَ في المدى، يَخُط مسار الحياة نحو الأفُق الحَالم، يشق الأرض المخضرة عابرا، فتعبر معه أحلامنا الصبية نحو تخوم الخيال.

ما كنا ندري من أين تشرقين، أو من أين تهبين كنسمة حب مزهر.. أو كقدر جميل عَشقناه، لا يشبه كل الأقدار.

حَسْبُنا أن نراك. عندئذ، وُجوهنا تصير ناضرةً إلى جسدكِ الشفاف ناظرة. ما كان يعنينا تشكيل السؤال عن ماهيتك خشية أن تذوب الدهشة كالسكر في ماء الانشغال بأسئلة الوجود والتكوين. كان يكفينا، أنكِ تجلسين وحيدة على تلك الحافة المتلألئة، تضيئين ضفة النهر، تنعزلين، تُسعدين لحاظنا الخجولة وهي تسترق النظر إلى حلاوة جسد تسكنه روحٌ خفيفة، لها دبيب يسري في دواخلنا، حليم بأنفسنا المنطلقة بين تضاريس البراءة. تروين عطش شهوتنا دون اكتراث، نراقبك خلسة، نتفيأ ظلال الإعجاب، نمتطي صهوة الهوس لنركض في ملكوت الجنون.. ولا حدود لانطلاقنا…

من خلفِ شجرِ العُليق كحجابٍ ساقته إلينا الطبيعة، كنا نلقي النظر، يعود إلينا كاشفا عن عمق التفاصيل، نندس فيها بكل الجوارح. نقطف أزاهير المتعة. نغسل أنفسنا بزلال بهائك، وأنت تغسلين ساقيك في ماء النهر.

قُمتِ ناهضة ذات حين، أو ذات قدرْ، لم يكن في الحسبان. انزلق جسدك نحو القاع كسمكة رشيقة، كعروس تظهر لحظة وتختفي لحظات. ينعقد القلق وتتوتر التأويلات… اختفيت خلف الماء في أبد مجهول. ركضنا نحو الحقول، نَطير، نسبق القدر، نَحرقُ المسافة بأقدام حافية تبصم الأرض بجراحها. ننثر البكاء في المدى وننادي:

– «عويشة» تغرق… بل غرقت في النهر..

لم يصدقوا حديثنا… ضحكوا وانفضوا، يضربون كفا بكف هازئين…

مضوا منكرين..

في القرية، كل مساء تشتد الحمى. حمى الصياح: عويشة غرقت.

يعود إلينا رجع الصدى هازئا:

النهر يا صبيان، لا يأتي بالحسان. لعل ماءه تسكنه جنية متوحشة تخطف الرجال.. وعويشة خِلقة أخرى… نعوذ بالله…

وأفاض العم قدُّور يفتري الكلمات، ويخلق الحجج ليفند رؤيتنا للجمال.

قد أدركنا متأخرين، في زمن ما بعد الغرق، أنْ ليس كل ما يُرى يقبل حكيه.. فأن تحكي رؤاك، تحتاج سامعا أمضى عمرا في جنة الخيال، سبح في نهر الحلم الخالد، عانقت ذراعَاهُ حسناءَ من الغيب… وإلا كيف تقبل النفوس نور الجمال، وفي العقول ميل ظالم إلى تفسير الغرابة تفسيرا مخيفا ومنفرا؟ النفوس جُبلت على الفزع… الغيب سر. والحياة سر. فطوبى لمن تُفتح له الأسرار.

فلماذا هذه النفوس تنزع إلى المخيف لا إلى الجمال؟

أمضينا زمنا نتخيل وجه عويشة الصبيح، العابث بالسنا.. نصرخ كلما عاد إلينا مشهد الغرق. مشهد الفراق الأبدي.

آخرُ ما رأيناه من جسدها البض، سِيقانَها الناعمة. أشعلت فينا فتيل المتعة. كانت هناك تلاعب الماءَ في مرح ودلال ترسم تفاصيل الإغراء. كنا كمن يتذوق حلاوة شهد يتقاطر عسله.

بات الخيال فينا يُنازعنا الحقيقة، وندفع افتراءات القُبح عن «عويشة» ونسعى إليها عبر الأحلام في المنام واليقظة. كبرنا في الزمن، وبقينا في المكان نشكو ألمَ الرؤية المتبقية في عمقنا كحمى مزمنة.

قاص مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي