اعترافات جريئة

2022-06-27

ذكرى لعيبي

التقيتها وكأني لم أعرفها منذ عقود.. بدت لي نحيلة، شاحبة، غير متزنة، حادّة المزاج.. عيناها فقط كانتا كما تركتهما «غابتي نخيل» وسرب يمام.

جلسنا على منضدة أعدّتها لاستقبالي.. عليها شمعتان وباقة ورد في مزهرية كريستال بلون أزرق، صحنان من المكسّرات وصحن كبير فاكهة وكيكة الجبن التي أحبها، وكأسان من النبيذ الأحمر الراقي.

جلستُ قبالتها.. قلتُ لها: تكلمي.. ما بكِ؟

نظرتْ في عيني ثم قامت واتجهت صوب جهاز الفونوغراف الذي تحتفظ به كتُحفة تاريخية مهداة من جدتها، وشغّلت إحدى الأسطوانات «أجرّ الصوت من جرحٍ براني، أجرّ الصوت ألا والجرح أكبر من زماني»

ثم عادت وجلست أمامي بكل هدوء:

ـ هل تعرفين أكبر سعادة ممكن أن تشعر بها امرأة، ومهما كان منصبها أو مستوى تعليمها، هي أن تجد رجلا يجعلها أميرة وملكة.. رجلا يخبرها أن العالم لا يعني شيئاً دونها.. رجلا يقول لها: كفاكِ تعباً حان وقت راحتكِ.

ـ وأنتِ هل وجدتِه؟

ـ حتى هذه اللحظة لا! لا أحد أشعرني بقيمتي؛ حسنا.. سأمسكُ يدكِ وأترك دمعتي تلوب في روحي، أحتاج أن أمسك يدكِ وأنا اتحدّث.

مسكتُ بيديها وكانتا باردتين، ترتجفان:

ـ ما بكِ؟

ـ أزهقتُ روحين، وزُهقتْ روحي عشرات المرات، كسرتُ قلب الرجل الوحيد الذي أحبنّي بصدق، وكُسر قلبي عشرات المرات.

ـ لحظة.. لحظة.. ماذا قلتِ؟ هل تقصدين أنكِ ارتكبت جريمتي قتل؟

ـ نعم.. قتلت نفسين لا ذنب لهما سوى أنهما غير مرغوب فيهما في هذا العالم.

ـ نفسان! ماذا تقصدين أيتها المجنونة؟

ـ أجهضتُ بشكل متعمّد مرتين، كم أنا بشعة لأقتل جزءا منّي، خشيتُ الفضيحة ولم أخشَ الخالق، وسمعت كلام الرجل الذي ظننته يحبني، ولم أسمع نبض جنين يتكون في أحشائي.

ـ وهل تعرفين الخالق؟ مَنْ تنقاد خلف أهوائها ورغباتها، وتنسى نفسها وعفتّها، هل تعرف الخالق؟

ـ أنتِ أقرب مخلوقة لي، وتعرفين جيدا أني لم انقد خلف أي رغبة بقدر انتقامي من نفسي، بقدر حاجتي للعيش، بقدر ظنوني الحسنة بالآخرين، أنا لستُ سيئة.

ـ دائماً كنتُ أحذّركِ، دائمًا أوصيكِ أن تأخذي من الحياة ما يليق بكِ ويوازي روحكِ، يوازي حلمكِ، أمنياتكِ، نمط أسلوبكِ.

ـ أي أمنيات في هذا الزمن الكالح، الشحيح بالمسرات، المعفّر بالغدر؟ أنا لستُ سيئة.. لكنني كنتُ آخذ حقّي بطريقتي الخاصة، الرجال لا يستحقون أن نمنحهم قلبا أبيض أو جسدا نظيفا.

ـ ليس جميعهم سيئين، أو مخادعين، أو كاذبين، لا تقنعي نفسكِ بأنهم جميعاً سيئون لتبرير أفعالكِ القبيحة.

ـ وأفعالهم.. أليست قبيحة؟ أم لأنهم رجال لا ضير من الخداع والخيانة والكذب والغدر والاستغلال! ثمة أنا طلبت مقابلتكِ لأبوح لكِ ما أخفيته سنوات، لأزيح هذا الصدأ والتراب، أريد أن أرتاح من هذا الهمّ.

عشتُ لحظات سيئة بمفردي.. بكيت ومسحتُ دمعي بيدي، فززتُ مفزوعة آلاف الليالي، ولم أجد مَنْ يربّتْ على كتفي، لم أنعم بساعات نوم كافية، ولم أذق «لذّة النوم للظهر» كما تفعل بعض النساء، لأن لا بد من العمل لتوفير لقمة عيش لنفسي ولأمي وأخي المريض. لم ألتق رجلا يبادلني مشاعره بصدق، يحبنّي لذاتي ويضحّي ولو بشيء بسيط من أجلي، كانوا جميعهم يضعونني خلف ستار معتم إكراما لزوجاتهم أو حياتهم الاجتماعية، هذا من ارتبط بي لجمالي، وذاك لجسدي، وآخر اختلق قصة حب للهرب من واقعه المرير، وآخر ليثبت لأصدقائه أنه ما زال على قيد الذكورة، وآخر للفرار من انكساره وشخصيته الهشّة في بيته، جميعهم منافقون.. في قلبي وعقلي رجل واحد، هل تعرفين هذا الأمر؟ رجل لن يتكرر، ولم تمنحه الحياة عمراً ليبقى معي.

ـ لماذا لم تعيشي على ذكراه؟

ـ نعم كان الأجدر أن أكون وفيّة أكثر، لكنه تركني وأنا في بداية شبابي، لم أرَ من الدنيا شيئا بعد، لم أعش قصة حب مكتملة، لم أجرب حياة العائلة، الأمومة، الزواج.

ـ والآن.. هل جربت؟

ـ أنا حزينة، منكسرة، حقيرة.

ـ أنتِ ضحية صديقتي، والضحايا طيبون، للأسف مضت سنواتك وأنتِ تبحثين عن شبيه حبيبك المتوفى، أردتِ العيش على ذكرياته، جلدتِ ذاتكِ أكثر من اللازم، وبقيتِ تتأرجحين بينكِ وبين موته، وبينكِ وبين حثالات اختياراتك.

ـ لم اختر شيئا، الأقدار كانت تسيرُ بي حيث تشاء، الأقدار تضع في طريقي علاقات هشّة وأشباه رجال؛ الأقدار..

وجلستْ تنتحب ببكاءٍ متواصل، يرافقه سعال يشجّ الرأس، حاولتُ أن أهدأ من روعها، فنهضتُ واتجهتُ صوبها، مسكتُ رأسها بكلتا يدّي ورفعته للأعلى:

ـ انظري إليّ.. أمس رحل.. مضى.. انتهى بكل ما فيه من وحل، اعترافاتكِ الآن لن تحيي الأجنّة التي أجهضتها، ولن تعيدكِ عذراء، ولن تعوضكِ السنوات التي قضيتِها في ضياع، نعم إبكِ .. اغسلي روحكِ بهذا البكاء المرّ، لكن ابدئي من جديد.

ـ أبدأ! كيف وأنا أشعر بأن الخطيئة تسلقتني من رأسي حتى قدمي، أنا مجرمة وبشعة.

حضنتُها بكل قوتي، وتذكرتُ بشاعة العالم معي أيضا، العالم الذي يمنح السلطة والمال والقوّة للجبناء والخونة، ويتركنا نعيش تحت راية الخوف والترقب، العالم الذي يلّوث البراءة ويهتك عرض الأخلاق والقيم تحت مسميات التحرر، العالم الذي سرق فرحتي وبيتي وسنوات عمري في وضح النهار، هذا العالم بشع.. نعم تذكرت وجلستُ انتحب مثلها، بل أكثر منها.. ثم انتبهتُ إلى نفسي وكان لا بد من أن أكمل دور المرأة القوية..

ـ مَنْ منّا بلا خطيئة؟ بلا ذنب؟ أو قبو ذاكرته فارغ من الذكريات المريرة! أنا مثلكِ صديقتي أخذت نصيبي من تعب الحياة، وبقيت قابعة في منطقة بين السكينة والتوجس والتوتر، بين الصمت والثرثرة، بين الخيبات التي تتقاتل في داخلي وأسكتها بالصلابة التي أتظاهر بها، لكن الفرق الوحيد بيننا؛ أنكِ بارعة في تمثيل أدوار العشق والغرام، وقاسية في سحق قطعة منكِ.. وضحكتُ طويلا.. ضحكتُ على عفوية المرأة الساكنة في أناي وتساءلت:

لماذا لا أجيد التمثيل؟

العالم الآن، مسرح وممثلون وأقنعة، لا شيء حقيقي، كل شيء زائف.

العالم الآن خشبة مسرح تحب التهريج.. تباً لهذا الزمن الأغبر.

وبكيت بشجن..

ـ سأنتحر.

انتبهت عليها وهي تردد هذه الكلمة، وكأن لكمة قوية على وجهي، بل صعقة كهربائية ضربتني

ـ هل جننتِ؟

ـ لا قيمة لي، سأضع حدّا لهذه الحياة الفاشلة، وعليكِ أن تساعديني!

ـ أنا؟ أساعدكِ على الانتحار؟

نظرتُ في عينيها، ولأول مرّة ارتعب منهما، مرآتان مصقولتان تعكسان صورتي، أنظر لصورتي فيهما، صورتي فقط، يا إلهي، ما الذي يحدث، أين ذاك البريق، اللمعة؟ أين أنا؟ ابتعدتُ عنها قليلًا وأوصالي ترتجف، حاولت أن استجمع كل قواي، ونهرتها بأعلى صوتي:

ـ كفى.. كفى؛ كفي عن هذا الهذيان، سخافة ما تقولينه، حماقة..

وجثوتُ على الأرض وكأني منهزمة من ديمومة الحياة.

تبادلنا الأدوار..

مدّت لي يدها.. نهضتُ.. تعانقنا وكأننا سنفترق للأبد؛ جلسنا إلى المائدة، احتسيت كأس النبيذ الذي أمامي، دون أن أنظر إلى عينيها، عدّلت خصلة الشعر التي نزلت على وجهي، ثم.. خرجتُ.

كاتبة عراقية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي