كان يعشق مهنته «أباً عن جد».. من ذاكرة شيخ صاغة حمص سرّي نقرور

2022-05-30

زينة شهلا

قبل قرابة عامين، أتيحت لي فرصة استثنائية لأقابل «شيخ صاغة» مدينة حمص السورية سرّي نقرور، وأجلس معه لمدة تزيد عن ساعتين في غرفة جميلة داخل منزله الكائن في حمص القديمة. ولعلّي كنت من أواخر من تمكنوا من لقائه ومحاورته عن مهنته وأصولها وخباياها، وكان عمره حينها ثلاثة وتسعون عاماً، إذ وافته المنية قبل حوالي شهر ونصف الشهر، ليدفن في مدينته التي أحب.

وما دفعني لطلب ذلك اللقاء، حكاية سمعتها من صديقة حمصية، عن صائغ اعتاد أن يعطي زبائنه قطعاً من الذهب والماس، دون أن يدفعوا ثمنها فوراً بالضرورة، إذ إن كل المهنة بالنسبة له تتمحور حول الثقة، والكلمة التي بمجرد قولها تتحول إلى ما يشبه العقد المكتوب. شدّني هذا التقليد الذي أفترض بأنه ما عاد ممارساً في أي مكان في سوريا اليوم، لأحاور الحرفي المخضرم.

بربطة عنق زرقاء وحمراء، وقميص وبنطال قماشيين، استقبلني شيخ الصاغة إلى جانب ابنه وابنته في غرفة مؤثثة بطريقة شرقية أنيقة. وبذاكرة حيّة وقدرة لافتة على استرجاع أدق التفاصيل، شعرت بأنه يسلمني مفاتيح مهنة ورثها «أباً عن جد» ومارسها لما يقارب سبعة عقود، بكل عشق وشغف، حتى أن اسم العائلة مشتق من فعل «النقر» على الذهب، وهو أمر كان يفخر به كثيراً.

تعلم أسرار المهنة

في عامه الخامس عشر، ترك سرّي مقاعد الدراسة ورافق والده أنيس ليتعلم منه أصول الحرفة المتوارثة في العائلة، وأسعفه الحظ بأن يقضي معه عامين قبل وفاته، ليستلم منه بعدها راية «شيخ الكار» وهي مرتبة عادة ما تتوارث بين الأجيال، وعلى من يشغلها أن يكون قادراً على تسيير أمور العاملين في المهنة، ويتحول لمرجع لكل أعرافها وقواعدها.

«أذكر عندما كنا صغاراً كنا نجلس على وسادة على الأرض كي نعمل. تعلمت من أبي أسماء وأشكال وعيارات القطع الذهبية كافة، وهو كان قادراً على تثمين أي قطعة ومعرفة إن كانت أصلية أو مغشوشة» قال مستذكراً، ومعدداً أسماء قطع ومصاغ مثل «الغوازل» و«الشنون» وجزء كبير منها لم يعد شائعاً أو مستخدماً اليوم مع تغير الأذواق والموضة الرائجة. وعن آلية التأكد من عيار القطعة الذهبية، إن كان مثلاً 21 أو 18 قيراطاً، كان نقرور يستخدم كما علمه والده حجر الصندل. «بمجرد حك القطعة على الحجر، والاستعانة بقطعة نحاس رأسها مذهّب لمطابقة اللون، نتمكن من معرفة العيار». ومن الطرق الأخرى حلّ الذهب بماء الفضة للتخلص من النحاس الموجود فيه، ثم قياس كمية الذهب المتبقي لمعرفة العيار. وفي الخمسينيات ومع تأسيس نقابة الصاغة في حمص، استلم نقرور منصب رئيس النقابة، وكان رقمه النقابي «1» ما يدل على عراقته في المهنة. ويشير إلى واحدة من مهام النقابة، وهي الإشراف على دمغ أي قطعة ذهبية تصنع في حمص بدمغة «السمكة» وكان لكل محافظة دمغتها الخاصة، مثلاً «المرساة» لدمشق، وأي قطعة لا تحتوي على دمغة النقابة لا يمكن أن تباع. ومن مهام شيخ الصيّاغ كما روى لي، القدرة على تحديد سعر أي قطعة ذهبية، وهو أمر كان يحصل لقاءه على مقابل مادي، إلى جانب فضّ أي خلاف قد يحدث بين الصاغة والزبائن.

عمل نقرور في النقابة لسنوات، ثم تفرغ للعمل كصائغ، وبقي «كبير السوق» وفق المصطلح المتداول، وهو الوحيد القادر على حل أي خلاف قد يحدث في السوق، وعزا السبب في ذلك «لتربية أبيه الذي لم يترك له سوى الاسم النزيه والصدق والأمانة، وكان شعاره: الإخلاص في العمل».

«هل أحببت هذه المهنة أو فقط مارستها لأنك ورثتها؟» سألته، وأجاب بكل ثقة: «أنا لم أحبها فقط، عشقتها أباً عن جد. هذه المصلحة (أي الحرفة) لا يمكننا تعلمها، يجب أن نحبّها، وأهم ما فيها ثلاثة أمور: العلم، والفهم، والحب».

الأساس: المصداقية

«كنا أمينين في عملنا، ومتميزين بالمعاملة الجيدة والصدق. إن عرف الناس بأن قطعة ما مسعّرة عند سرّي نقرور، يثقون بها تماماً» قالها بفخر، وحكى لي الكثير من المواقف المرتبطة بهذه الثقة التي كانت متبادلة بين جميع الصاغة، فمثلاً أعطى نقرور ذات مرة أحد الصياغ طقمين من الماس على أن يأخذ ثمنهما في ما بعد. «كان عادياً أن تعطي قطعاً دون تسجيل أو محاسبة. وعندما نطلق وعداً ننفذه، حتى لو أدى لخسارتنا». ولم ينفِ تعرّضه للسرقة، لكن الأمر لم يعدُ كونه حادثاً من جملة ما يمكن أن يتعرض له أي حرفي. «يجب أن نخسر لنعرف كيف نربح، ولم تدفعنا أي حادثة لتغيير طريقة تعاملنا مع الزبائن». وأخبرني مبتسماً عن سرّ آخر للمهنة وأصولها: «كانت عملية تذويب السبائك وعيار القطع الذهبية تتم بشكل يدوي ويحتاج للكثير من الدقة والاحترافية. كان جدّي يفضّل أن يزيد العيار قليلاً مع استحالة القياس بشكل دقيق، لأنه كان يعتقد بأنه من الأفضل أن يكسب الزبون، لا أن يكسب هو، ولدينا قاعدة نتبّعها دائماً: بارك الله باللي بيربح وبيخلّي غيره يربح». وأضاف بأن زبائن عدة أخبروه بعد توقفه عن العمل عام 2014 بأنهم ما عادوا يثقون بشراء الذهب من أي مكان آخر. ولم يكن من الصعب أن ألمس تأسفه على ما آل إليه حال هذه المهنة اليوم.. «الآن أصبح الصائغ تاجراً، وهو يفترض أن يكون حرفياً، لا يتقن فقط البيع والشراء وإنما أصول المهنة. قديماً، كان على من يرغب بأن يصبح صائغاً، الخضوع لامتحان، وكانت للنقابة في حمص كلمتها، وكان للذهب السوري مصداقية على مستوى العالم. لكن للأسف تغيرت الكثير من الأمور خاصة خلال الحرب، وانتشر الغش على نطاق واسع».

وأختتم بقصيدة قالها وهو يودعني، وأخبرني بأنها من كلمات ابن عمه الشاعر نبيه نقرور، وبأنه يحب معانيها كثيراً ودائماً ما يرددها:

شيخاً قضيتُ وحرّاً كنت في زمني

ميزان عدل وإنصاف لمؤتمنِ

هنا انتهينا وهذا القبر موطننا

يضم أجدادنا من غابر الزمنِ

عملنا للدنيا ما عملت أناملنا

كأنما الموت لم يأت ولم يكنِ

تبقى سماتنا للأجيال ظاهرة

رمز الإباء وحب المجد للوطن

كاتبة سورية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي