المترجم السوري موسى الحالول: لا توجد كتابة بريئة

2022-04-13

حوار: مصطفى الخليل

موسى الحالول مترجم وأكاديمي سوري، له أكثر من 45 كتابا في الترجمة والتأليف. ومؤخراً قدم للمكتبة العربية ترجمة لكتاب الأمريكية إلين رانيلا «ماضينا المشترك: الأصول الشرقية للأدب الشعبي الغربي»، الذي تكمن أهميته في كونه يستعرض أصول الأدب الشعبي الغربي وجذوره المستقاة من التراث العربي، موضحاً دور التراث العربي في تكوين الثقافة الغربية في عصر النهضة، جنباً إلى جنب مع الثقافتين الإغريقية واللاتينية، إضافة للإسهام الكبير للترجمات العربية للعلوم الإغريقية في كل من إسبانيا وصقلية من خلال نقلها إلى العربية بداية ثم اللاتينية، ومن ثم إلى أوروبا الغربية. عن أدوات الترجمة ومعاييرها الجيدة، وعلاقتها بالاستشراق، كان هذا الحوار..

أشرتَ في النسخة المترجمة إلى مغالطات فادحة وقعت فيها مترجمة سابقة للكتاب. إلى أي حد تعتبر أن الخطأ في الترجمة «جريمة» بحق النص الأصلي؟

لا أميل إلى تسمية الإساءة إلى النص الأصلي جريمة، بل يكفي أن نسميها إساءةً وإجحافاً وإن تعاظمت نسميها جُنحةً. في الترجمة السابقة لهذا الكتاب، كانت الإساءة ثلاثية الأركان: بحق المؤلفة والنص والقارئ المترجَم له. وقد بيَّنت ذلك بشيء من التفصيل في (تصدير المترجم).

وما هي معايير الترجمة الجيدة؟ وهل تختلف من نوع إلى آخر؟ وماذا عن الأدوات التي يجب أن يمتلكها المترجم الجيد؟

أن تكون الترجمة صحيحة وأمينة في نقل المعنى، وأن تكون سليمة اللغة (نحوا وإملاءً)، وخالية من الرطانة الأسلوبية التي تنتقل من الأصل الأجنبي، دون «فَلْتَرة» الشوائب الدخيلة. ولا شك في أن معايير الجودة في الترجمة تختلف تبعا لطبيعة النص المترجَم والحقل المعرفي الذي ينتمي إليه. ففي الترجمة الأدبية على سبيل المثال، يُتوقَّع من المترجم أن ينقل السمات الأسلوبية والبلاغية والجمالية، بالإضافة إلى الحمولة الثقافية للنص الأصلي، ببراعة واقتدار. أما مترجم النص العلمي أو التجاري فليس مطلوبا منه كل هذا العناء المعرفي والتأنُّق الأسلوبي. ولذلك يُضاف إلى أداتي المترجم الأساسيتين ــ إتقان اللغتين والتخصص الأكاديمي ـ أن يكون أيضا ثنائي الثقافة، وذا معرفة بطرق التعبير السليم في كلتيهما، بل لا بد من أن يكون المترجم الأدبي أديبا، أو على الأقل هاويا للأدب.

وما أهمية النسخة الأصلية من هذا الكتاب في الغرب؟ ومن هي فئة القراء التي تُقبل على نوعية كهذه من المؤلفات؟

بما أن الكتاب يعالج قضية أثر الأدب الشعبي العربي في الأدب الغربي، فهو من الناحية النظرية يستهوي طلاب الأدب المقارن، ولاسيما أتباع المدرسة الفرنسية التي تهتم أساسا بمسائل التأثير والتأثر. ولا شك في أن الكتاب مهم أيضا للمستعربين والمستشرقين والمختصين في تاريخ الآداب الأوروبية، ولاسيما الشعبية منها. لكن لا بد من الاعتراف بالحقيقة المُرة، فعلى الرغم من أهمية الكتاب، إلا أن المؤلفة في ما يبدو لم تجد إلا دار نشر صغيرة نسبيا، يملكها رجل أعمال عربي في لندن. ثانيا، لم يُصدر الناشر طبعةً بغلاف ورقي إلا بعد خمس سنوات على صدور الطبعة الأولى. وهذا مؤشرٌ آخر على ضعف الإقبال على الكتاب. ومنذ 38 سنة لم تصدر طبعة جديدة!

وضعتَ شروحات وتصويبات عقائدية (من وجهة نظرك كمسلم) في هوامش النسخة المترجمة، ما هي الضرورة لأن يأخذ المترجم دور المحقق للنص الأصلي؟ ألا تخشى من تأثير ذلك على القارئ؟

أولا، ليست كلها تصويبات عقائدية، بل هناك أيضا أخطاء تاريخية وقعت فيها المؤلفة وصوَّبتُها في الهوامش، وقد فعلتُ ذلك إحقاقا للحق، ولفائدة القارئ. ثانيا، لا توجد كتابة بريئة، فكما للمؤلفة الحق في الإدلاء برأيها في مسائل عقائدية تخصني ـ وهذا أمر احترمتُه بالحفاظ عليه من غير حذفٍ أو تحويرٍ كما فعلت المترجمة السابقة ـ لي أيضا الحق أن أنتصر لعقيدتي. ثالثا، المترجم ليس أداةً سلبيةً تنقل النص من دون أن تتفاعل معه. رابعا، إن كانت هناك خشية من أن يتأثر القارئ بتصويباتي وشروحي على النص، ألا توجد بالمقابل خشية من أن يتأثر هذا القارئ بآراء المؤلفة؟ على الأقل، من ناحيتي احترمت للقارئ حقه في الاطلاع على آراء المؤلفة دون تحريف. أما بخصوص تصويباتي فله الحق أن يقبلها أو يرفضها.

لماذا لا يتقبل الغرب نقد مرجعيته المعرفية من الخارج؟ وهل هذا ناتج عن الاستعلاء والشعور بالتفوق؟ أم ماذا؟

بالنسبة إلى الشق الأول من السؤال، أود أن أقول إن جميع الثقافات عموما لا تقبل المراجعات النقدية من خارج حدودها. كما أن الصورة ليست بهذه القتامة. ففي الغرب الآن هناك مذهب جديد في دراسة التاريخ يسمى revisionism (المذهب التمحيصي) يراجع فيه أتباعه كثيرا من المسلَّمات والمعتقدات السابقة، فدققوا وراجعوا وشكَّكوا وسفَّهوا وطرحوا بعضا منها. والثقافة الغربية عموما ثقافة دينامية، بخلاف الثقافات الشرقية السكونية التي تخضع كل أنشطتها لرقابة مؤسسات الدولة، بما في ذلك أجهزة الأمن، ووصايتها، ما يحد من قابليتها للتطور والمراجعة والنقد. على سبيل المثال، هل كان يجرؤ طالب ماجستير أو دكتوراه في جامعة دمشق أو حلب قبل عشرين عاما أن يدرس «عَلَوية» المتنبي، سواء أَثَبَتت أم لم تثبت، دون أن تستنفر أجهزة الأمن هناك؟ أما بالنسبة إلى الشق الثاني، فلا شك في أن تطور الأدوات المعرفية لدى الغربي تعطيه شيئا من الاعتداد بذاته. لكن المسألة لها بعد عقائدي أيضا. فالعلاقة بين العرب المسلمين والغرب المسيحي علاقة صراع لم يفتُر إلا لِماما منذ مواجهتهما الأولى في معركة اليرموك سنة 636 ميلادية إلى يومنا هذا. ولذلك هناك عُقَد نفسية لدى الطرفين ما تزال تؤثر في تعاطي كل منهما مع الآخر.

ما هي العلاقة بين الترجمة والاستشراق؟ وأيهما أكثر تأثيرا على الآخر؟

لا يوجد استشراق من دون ترجمة، فكل مستشرق مترجم، سواء بالمعنى الحرفي للكلمة (حيث ترجم كثيرٌ من المستشرقين نصوصا عربية وشرقية لجمهورهم الغربي) أو بالمعنى العام (حيث نقلوا معارف الشرق إلى الغرب). أما أيهما أكثر تأثيرا في الآخر، فهذه مسألة لا يستطيع أحد أن يجزم فيها.

هل نجح الغرب في تبرير «الانتقائية» فصار المسكوت عنه في تاريخه منسيا ولا تأثير له في الثقافة حاليا، وبالتالي «أفلت» من المراجعة والنقد؟

يتحلل الغرب رويدا رويدا من عُقَده السابقة. لا توجد في الغرب اليوم محظورات أكاديمية مطلقة سوى التشكيك في المحرقة النازية (الهولوكوست) ورقم الستة ملايين من ضحاياها اليهود. أما المراجعات فقد أثمرت سياسات لها تأثير إيجابي على مواطني تلك الدول من الأقليات. أما علاقة الغرب مع غيره فلا تخضع للقيم الإنسانية، بل ظلت محكومة بإملاءات السياسة والمصالح الاقتصادية. لكن هل نتوقع أن تعتذر أمريكا لسكان البلاد الأصليين «الهنود الحمر» وأن يعود أحفاد المهاجرين البيض إلى أوروبا؟ ولا في الأحلام!

هل يبالغ العرب والمسلمون في تحميل الاستشراق كل هذه النظرة السلبية؟ وهل تعتقد أن أحد أهم أسباب بروز الاستشراق هو عدم البحث عن حلول جدية لأزمات حقيقية يعيشها المجتمع العربي والمسلم؟

لا شك في أن هناك مبالغة من جانب العرب والمسلمين في تحميل الاستشراق مسؤولية التحامل الغربي على العرب والمسلمين. لكن ينبغي ألا ننسى أن الاستشراق الغربي نشأ لحاجة غربية ولم يرتبط قط بالبحث عن حلول لأزمات العالم العربي الإسلامي، وعموما للاستشراق جانبان: جانب أكاديمي (كالاستشراق الروسي والهنغاري والألماني) وجانب سياسي هدفه معرفة بلدان الشرق وثقافاتها ولغاتها ودياناتها، بقصد معرفة أفضل السبل للسيطرة على هذه البلدان (وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على الاستشراق الفرنسي والبريطاني والهولندي، وبالدرجة الثانية على الاستشراق الأمريكي). وأيا كان الأمر، يجب ألا ننسى أن للمستشرقين فضلا كبيرا أيضا في تحقيق بعض المخطوطات العربية ودراسة أدبنا العربي القديم دراسة لا ينكر قيمتها إلا جاهل أو جاحد.

هناك رأي يقول إن الترجمة تساهم في التقريب ما بين الشعوب والثقافات، هل تعتبر أن هذا الرأي صحيح بالمطلق؟ أم أنه رأي حالم إلى حد ما؟

أرى أن هذا القول قول رومانسي حالم. لا شك أن الترجمة تمد جسور التواصل والتثاقف بين الشعوب في بعض الأحيان، لكنها قد تكون في أحيان أخرى وسيلة الآخر للتلصص على «عورات» أعدائه الثقافية، أو جسرا لمعرفة هذا الآخر ليسهُل احتلال أرضه أو استغلال موارده الطبيعية. وكما أنه لا توجد كتابة بريئة، كذلك لا توجد ترجمة بريئة تُعمل «لوجه الله».

إلى أي درجة ساهمت جائحة كورونا في خلق نوع من النِّدِّية بين الشعوب؟ وهل تمكن المثقفون في العالم من استثمار هذه الحالة بالشكل الأمثل؟

الإجابة على الشق الثاني من السؤال تحتاج إلى اطلاع موسوعي على ما كتبه المثقفون في العالم عن هذه الجائحة. لذلك سنتجاوزه وأعود إلى الشق الأول: فمع أن كورونا، مشكورةً، لم تميز بين غني وفقير، ولا بين أبيض وأسود، إلا أننا رأينا كيف تركت البلدان الغنية في شمال أوروبا بلدين مثل إيطاليا وإسبانيا يصارعان الجائحة بلا نجدة. أما في عالمنا العربي، فضمير الأمة اهتز لمرأى «ملابس داخلية» لممثلة ولم يهتز لمرأى دماء مئات الآلاف من «الأشقاء» العرب المذبَّحين هنا وهناك. أما مقولة «كلنا في الهَمِّ شرق» فهي مقولة شاعر رومانسي حالم.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي