تجلى ذلك في أزمة أوكرانيا.. كيف فشلت رؤية ماكرون لأوروبا؟

الأمة برس - متابعات
2022-04-11

الرئيسان الفرنسي إيمانويل ماكرون والروسي فلاديمير بوتين (أ ف ب)

نشرت مجلة «فورين بوليسي» مقالًا لبارت إم جيه زيفتشيك، باحث كبير غير مقيم في صندوق مارشال الألماني وأستاذ مساعد بمعهد الدراسات السياسية بباريس، حول موقف ماكرون من الحرب الروسية في أوكرانيا والذي بُنيَ بالأساس على تصوره الفكري حول الاستقلال الأوروبي.

ويستهل الباحث مقاله بالقول: قبل خمس سنوات خلَتْ، انتُخِب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بناءً على وعدٍ بتنشيط الاتحاد الأوروبي بحماسةٍ ورؤيةٍ جديدتين، وعند وصوله إلى تجمع الاحتفال بالفوز بينما كان نشيد الاتحاد الأوروبي يُعزف وأعلام الاتحاد الأوروبي ترفرف من خلفه، تعهد ماكرون «بالدفاع عن أوروبا» وحماية «حضارتها».

ويكمن مفهوم الاستقلال الإستراتيجي الأوروبي في قلب رؤية ماكرون لأوروبا، وهي رؤية طوَّرها بتفصيل كبير خلال السنوات التي قضاها في المنصب. وما يبدو منطقيًّا وعمليًّا في البداية – أن تكون أوروبا قادرة على تأكيد استقلالها وضمان أمنها – هو جزء من صرح أيديولوجي أكبر بكثير يخص مكانة أوروبا في العالم وقد استهدفه قادة فرنسيون آخرون جاؤوا قبل ماكرون.

ويمضي الكاتب إلى أن هذه الرؤية التفصيلية لأوروبا انهارت للتو واحترقت في أوكرانيا، وبخلاف سلسلة من المحاولات الفاشلة للدبلوماسية الشخصية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان ماكرون غائبًا تمامًا عن حشد استجابة أوروبا لأخطر تهديدٍ للقارة منذ عام 1945.

ويعود فشل ماكرون في التعامل مع الحرب الروسية، والفظائع التي يتزايد انتشارها على نطاق واسع والتهديد لأمن أوروبا، إلى أيديولوجيته الخاصة بالسياسة الخارجية، ويقول الكاتب إنه بفضل ذكاء ماكرون الحاد وسلطته الدستورية الواسعة لتفعيل معتقداته، فقد شرح تلك السياسة الخارجية بإسهاب في جامعة السوربون، وخلال المؤتمرات السنوية للسفراء الفرنسيين، وفي الكلية الحربية الفرنسية، والبرلمان الأوروبي، وينطوي صرح الأفكار هذا على عديدٍ من العناصر الأساسية التي قادت ماكرون مباشرةً إلى فشله مع بوتين.

ثقافة أوروبا وحضارتها مختلفة

أولًا، عرَّف ماكرون مهمة فرنسا بأنها تتلخص في استعادة مكانة أوروبا بوصفها حضارة عظيمة و«فريدة» من نوعها – وبالأخص تأمين دور قيادي لفرنسا وتعزيز مصالحها الخاصة. ويرى ماكرون «توازنًا للقيم» في أوروبا «لا يمكن العثور عليه في أي مكان آخر على هذا الكوكب»، ويقصد بذلك الحرية وحقوق الإنسان واقتصاد السوق والعدالة الاجتماعية، ويعرِّف ماكرون الثقافة الأوروبية بأنها «فن الوجود في العالم»، بما في ذلك «الشعور بعاطفة كبيرة أمام» الكنوز الفنية والتاريخية وكذلك في «تصور المغامرة البشرية».

ثانيًا، أكد ماكرون مرارًا وتكرارًا أن الثقافة والحضارة الأوروبيتان تختلفان عنهما في الولايات المتحدة والصين – ولكنهما تشملان روسيا. ويُقر ماكرون بأن الولايات المتحدة تنتمي إلى «المعسكر الغربي» لكنه يجادل بأنها «لا تروِّج للنوع نفسه من النزعة الإنسانية» مثل أوروبا (بما في ذلك، كما يعرِّفها ماكرون، روسيا).

وبالمثل، فإن «الحضارة الصينية» ليس لديها «التفضيلات الجماعية نفسها، أو القيم نفسها» مثل أوروبا. ومن خلال المساواة بين واشنطن وبكين بوصفهما معاديين على نحو متساوٍ للمصالح الأوروبية، يجادل ماكرون بأن «ما تمثله أوروبا» لا يمكن أن يُعهد به إلى «الجانب الآخر من المحيط الأطلسي أو الجانب الواقع على أطراف آسيا».

ومن ناحية أخرى، تتمتع روسيا بمكانة خاصة في كوكبة من القوى لدى ماكرون بوصفها «جزءًا من أوروبا» بقدر ما تُعد فرنسا كذلك – حتى بوصفها لاعبًا نشطًا في قيادة «مشروع الحضارة الأوروبية». وهذه بالطبع قراءة غريبة للتاريخ الثقافي والسياسي والفكري الغربي. إن اقتناع ماكرون بضرورة جذب روسيا إلى أوروبا وإبعاد الولايات المتحدة دفعه إلى السعي لإقامة «علاقة جديدة» مع روسيا بقيادة بوتين – ضد المصالح الواضحة لعديدٍ من الدول الأوروبية التي نظرت إلى روسيا والولايات المتحدة نظرة مختلفة.

ثالثًا، يدعم ماكرون نظريته عن حضارة عموم أوروبا من المحيط الأطلسي إلى جبال الأورال بعقيدة أمنية تؤكد الاستقلال الإستراتيجي الأوروبي لتحقيق التوازن ضد القوى العظمى الأخرى. ومصطلحه لوصف هذا هو «السيادة الأوروبية»: «قدرتنا على الوجود في عالم اليوم للدفاع عن قيمنا ومصالحنا». وجادل ماكرون بأن أوروبا تتطلب «قدرات عملياتية مستقلة، مكمِّلة لحلف شمال الأطلسي»، على الرغم من أنه يعتقد أيضًا أن الناتو «ميت دماغيًّا».

مبادرات عسكرية متواضعة

ويوضح الكاتب أنه لتحقيق هذه الغاية، أطلقت فرنسا بعض المبادرات العسكرية المتواضعة داخل الاتحاد الأوروبي، على الرغم من أنها لا تقارب بأي حال فعالية قدرات الناتو وهياكله. وقال أحد كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي ساخرًا إن مبادرة التدخل الأوروبية، وهي مشروع عسكري مشترك مقره في باريس مع دول أوروبية أخرى، قد نُشِرت فقط للاستعراض خلال موكب يوم الباستيل السنوي في الشانزليزيه. وفي حين أن الولايات المتحدة يمكن أن تتخلى عن أوروبا في أي وقت، كما يقول ماكرون، «لا يمكن أن يكون هناك مشروع دفاع وأمن للمواطنين الأوروبيين دون إعادة بناء تدريجي للثقة مع روسيا».

أما مع بوتين، كان يهدف ماكرون إلى «بناء هيكل جديد قائم على الثقة والأمن في أوروبا»، حتى إن ماكرون قد قال إن دولًا مثل الولايات المتحدة كانت تحث أوروبا على «فرض مزيدٍ من العقوبات على روسيا لأن ذلك في مصلحتها»، مضيفًا أن مصالح أوروبا «بالتأكيد لن» تخدمها العقوبات المفروضة على روسيا.

وفي الساعات الأولى من يوم 24 فبراير (شباط)، عندما ضربت الصواريخ الروسية الأولى المدن الأوكرانية، انهار صرح ماكرون الفكري تحت وطأة أوهامه وتناقضاته. ويمضي الكاتب إلى أنه حتى بينما كانت حرب روسيا التي تتزايد وحشيتها تمضي على قدم وساق، لم يعترف ماكرون بأنه أساء في الحكم على بوتين إساءة خطيرة.

وبدلًا من تغيير المسار والمساعدة في بناء التحالف لوقف روسيا، ضاعف ماكرون منذ ذلك الحين تواصله الدبلوماسي من خلال إجراء مكالمات متعددة مع موسكو منذ الغزو، حتى إنه حذر الرئيس الأمريكي جو بايدن من التصعيد بالقول أو الفعل. ونشرت فرنسا 500 جندي فقط في رومانيا منذ بداية الحرب، بالإضافة إلى 500 جندي يتمركزون بالفعل في إستونيا، ولم تكشف عن إمداداتها من الأسلحة إلى أوكرانيا – سواء لأن تلك المساعدات ضئيلة جدًّا أو لأن ماكرون يرغب في تجنب استفزاز روسيا من خلال الإعلان عنها.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (أ ف ب)

سوء تقدير تكتيكي أم قرارات إستراتيجية؟

يلفت الكاتب إلى أن خيارات ماكرون ليست مجرد سوء تقدير تكتيكي، بل إنها تعكس قرارات إستراتيجية طويلة الأمد تستند إلى بناء فكري راسخ. وطوال مدة ولايته، استقبل ماكرون بوتين في قصر فرساي وفورت بريجانسون بهدف بناء «بنية جديدة قائمة على الثقة والأمن في أوروبا» بينما كان يوجِّه ما تكاد تكون ضربات مُقنَّعة إلى الولايات المتحدة من خلال إخبار بوتين بأن وجود ترتيب إستراتيجي كبير مع روسيا «ليس في مصلحة بعض حلفائنا».

وبحسب رؤية الكاتب، فقد ادَّعى ماكرون أن «القارة الأوروبية لن تكون مستقرة أبدًا، ولن تكون آمنة أبدًا، إذا لم نُهدِّأ علاقاتنا مع روسيا ونوضحها». ودفع بأنه خلاف ذلك، تخاطر أوروبا بالاستمرار في كونها «مسرح معركة إستراتيجية بين الولايات المتحدة وروسيا»، و«لن تضع الأساس لإعادة إنشاء الحضارة الأوروبية العميقة». وكان ماكرون خارج الصورة تقريبًا بشأن الأزمة الأوكرانية في الأسابيع القليلة الماضية، ومن غير الواضح هل يغيِّر رأيه بشأن الرغبة في استيعاب روسيا وما يسمى بمخاوفها الأمنية أم لا.

ويختتم الكاتب مقاله بالقول إنه وبدلًا من قيادة أوروبا، كما كان يأمل بلا شك، ترك ماكرون الميدان للآخرين. لقد كشفت حرب روسيا عن مفهومه الإستراتيجي الخاطئ المتجذر عن أوروبا بوصفها تتمتع بالاستقلالية من الناحية الإستراتيجية.

وفي الوقت الحالي، فإن الخط الرئيس للدفاع الأوروبي – إلى جانب الجيش الأوكراني – هو 100 ألف جندي أمريكي في القارة، من بينهم أكثر من 10 آلاف جندي يقومون بالتناوب على الخطوط الأمامية في بولندا بالإضافة إلى عشرات الآلاف من القوات من دول الناتو الأخرى، وكما قال مستشار ألمانيا الغربية السابق كونراد أديناور في ذروة الحرب الباردة، يُعد الأمريكيون أفضل أوروبيين. إنه قول مأثور قديم قد يفيد ماكرون كثيرًا أن يتذكره.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي