موهبة في الزقاق

2021-11-16

عدنان عبدالله (أبو علي البوريني)

قادته قدماه عبر الشوارع العريضة المزدانة بالبضائع، تثاقلت قدماه وهما يمران بالقرب من ذلك الحذاء الإيطالي الجميل لكن شعوره بالعري التام أمام تلك البدلة الفرنسية الصنع جعله يغذ الخطى مبتعداً تاركاً عينيه على رصيف الشارع المقابل للمحل، تفتتحان في رأسه معرض أزياءِ لجميع أنواع الكاوبوي الأمريكي المعلق في زاوية من واجهة العرض، وحين أحس بالقهر العظيم التقط عينيه وتوارى في أحد الأزقة القريبة.

تساءل وهو يعبر الزقاق عن سر هذه التسمية، فآخر كتاب قرأه كان «زقاق المدق» وقبل ساعات قليلة كانت تتهادى إلى أسماعه انغام «زقاق بيني» وغاص في بحر اللغة يجرد الأفعال والأسماء ويستعيد الكلمات المعربة، لكن اصطدامه بأحد القادمين من الاتجاه المعاكس أزاح عن كاهله عناء البحث والتنقيب وأعاد له بعضاً من توازنه، تداخل في ذاته، جمع أحاسيسه المكثفة وأعاد نشرها فوق سطح جسده، فأحس ببرودة الماء الذي تسرب من ثقوب حذائه.

توقف مشدوهاً وكأنه لم يكن يعلم أنه ينتعل حذاءً غربالياً يلتصق بقدميه بعناءٍ شديد، باذلاً أقصى جهوده لتأدية وظيفته التي لم تكن سهلة أمام النمو غير الطبيعي لأصابع تلك القدم، وقبل أن يتساءل عن مصدر الماء أحست عيناه ببرودة مماثلة، وهما ينتقلان من حفرة إلى أخرى على طول الزقاق، وكم راعته تلك الحفر المتناثرة ذات الأعماق والسطوح المختلفة والمعدة لاستيعاب كل شيء حتى الغيوم التي من الممكن أن تتكثف في درجة الغليان وتهطل مطراً.

التقط أنفاسه، ألقى نظرة طويلة على الزقاق والحفر المتناثرة المملوءة بالماء، محاولاً سبر أغوارها، تابع سيره يقفز تارة وطورا يمشي على أصابع قدميه، وثالثة على كعب حذائه، محاولاً تجنب السقوط قدر الإمكان. عبر الزقاق واكتشف مواهبه في القفز والنط والأرجحة، فشكر أجداده القرود وجيناتهم الوراثية التي لولاها ـ حسب رأيه – ما كان بإمكانه عبور الزقاق بهذه الكفاءة والسرعة، وكنوع من الوفاء لهم استمر في القفز والنط والأرجحة، ولم يتوقف إلا حين سمع أصواتاً تقترب، وحين أدرك أنها أصوات أطفال يحتفلون بزواج فراشتين متعانقتين فوق زهرة برية عاد إلى القفز والنط والأرجحة، وكان يردد عبارات مبهمة عن الحرية والغد والقرار.

أثار وجود الأطفال وغناؤهم خوفه وفضوله، اقترب منهم كثيرا، اختبأ بين نباتات «الهالوك والحامول» وحين أدرك انه من غير الممكن تميزه عنها، أو رؤيته بدأ يراقبهم وما هي إلا لحظات حتى أغمضت الزهرة عيونها السحرية محتضنة عروسيها الجميلين وبدأ الأطفال ينسحبون مودعين عروسيهما بالبسمات والدموع، وحين أصبحوا على بعد أمتار قليلة من مخبئه سمع أصواتهم ينشدون بصوت ملائكي حزين.

الغد خربوش ستحمله

وتحمل فوقه حزنا وعار

وساعات انتظار

لأرغفة من الخبز المعلب بالحصار

ابتعد الأطفال عن مخبئه فسمح لوجهه أن تعلوه ابتسامة عريضة أخفاها بسرعة فائقة، فرح كثيرا لاكتشافه هذه الموهبة الجديدة «موهبة الابتسام المنظم» ولشدة فرحه تسلق شجرة باسقة، وقف في أعلى مكان يمكن الوصول إليه، التقط بعض الثمار… قذفها عاليا وقفز من مكانه لالتقاطها وقبل أن يصل الأرض كان قد اتخذ قراره.

مرت السنين وأصبح القرد ـ لقبه بين أهل المدينة ـ ذا مال ورجال ينهض في الصباح الباكر ينادي زوجته «بتريشا»، يرتدي بدلته الفرنسية الصنع وحذاءه الإيطالي ويقود سيارته الألمانية الصنع متجها إلى مكان عمله، يلقي بجسده فوق كرسي مكتبه الوثير، يشعل سيجارة ملبورو أمريكية الصنع، ويكتب أعنف المقالات ضد الإمبريالية، ولأنه يعرف لقبه بين أهل المدينة، ويحب أن يتعامل مع الواقع ولا يقفز عنه فقد كان لا ينسى أن يذيل مقالته بتوقيع القرد الثائر.

ذات يوم كان يتابع الحلقة الأخيرة من مسلسل تلفزيوني بعنوان المطاردة.. عيناه جاحظتان معلقتان فوق الشاشة الصغيرة.. يسترخي.. يتوتر تبعا للمشاهد المتلاحقة.. النهاية تقترب.. دقائق معدودة.. ازداد توتره.. العرق يغرق جسده.. تداخل كبير.. اتحاد تام.. صراخ.. صراخ.. التحام تام.. وبسرعة أخرج مسدسه وأطلق النار.. تحطم التلفزيون وانقطع النور.. دخان كثيف يتصاعد.. شبح قرد يحاول القفز عبر الدخان.. سقوط.. صرخات استغاثة.. صرخات.. وامتلأ الفضاء بأغان وأناشيد لأطفال يحتفلون بعرس وميلاد ولم يعد يتسع لشيء آخر.

كاتب فلسطيني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي