هوامش على أثر الفراشة

2021-11-10

محمد زعيزعة*

كان يجري، يفكر في أثر الفراشة، وفي ظل هذا الاحتقان الذي تعود عليه، كان يحفر داخل فكره والعرق يتصبب منه، يتساءل، كيف يمكن لعقله أن يقوم بتنسيق حركات رجليه، وفي الوقت نفسه، أن يفتح سؤال مكانة ما يقوم به في التاريخ؟ هل هذا العرق الذي يتصبب منه سيقنع السماء بأن ترحم هذا الجسد الذي يحمل تاريخا من السقوط، ورغم ذلك فإنه يقاوم ويتمنع..
الرباط تضيق، ونظرات الناس، كأنها خُلقت لأجله، وبعد قليل، سيتحول المكان إلى سجن كبير، وصوت درويش الذي كان يصدح على طول الطريق، يخفت في ذهنه شيئا فشيئا، ولا يعلم، لماذا تطول الدقائق، فلا تلفظ الساعة إلا بعد جهد مرير، « فلأكن، ما تريد لي الخيل في الغزوات، فإما أميرا، وإما أسيرا، وإما الردى»… أما الأمير، فقد ضاع في الطريق، ولم يفضل له من ذاكرة الصوت إلا أصداء الأسر والردى. والحرارة، كأنها نار، نار يذكيها غضب الأجداد الذين طُعنوا خيانة وغدرا… كان يجري، ويخاطب الأجداد، «لا تغضبوا اليوم، المسافة ما زالت طويلة… لا تغضبوا لأن العرق يزعجني، والحذاء يضيق، ورئتي ستنفجران». ومن بين كل المرات التي حزم فيها حقائبه ليرفع عقيرته بمطالبه في شوارع الرباط، أحس هذه المرة بشيء مختلف، الحلم في داخله يموت، والمستقبل الذي بالغ في فرش سجادته لتقيه شوك التراب، يقف الآن أمامه ويخاطبه: «مستقبلك هو الآن».. وفي لحظة ذابت من ذاكرته، لم يدر كيف وجد نفسه ساقطا على الأرض، قام بسرعة وهو يشكر أمه، ويلعن فكرة الزواج، لأنه آمن أنه بذلك، سيوفر ضلوعا وعظاما تهشمها هراوات أشخاص لا يعرفهم، أشخاص ما زال مترددا في كرههم أو التعاطف معهم. فكر في أمه مرة أخرى، اشتاق لخبز الشعير الخشن الذي لطالما حثته على أكله، اشتاق للصباح الهادئ في ظلها، وإذا كان لا يدري أسيرجع إليها أم لا، وإذا كان لا يدري أي شخصية سيكونها بعد أن تنفض هذه الجموع، وتهدأ الحناجر، فإنه يؤمن بكل ما تبقى له من نقاء قلبي، وسلامة عقلية، بأنه سيعود مرة أخرى مهما كان الثمن.. سيعود لأن هذا البعد الذي يتحسسه في نفسه في شوارع الرباط، ما زال يقلقه، سيعود ليسرق تلك اللحظات التي يتوحد فيها صوته مع أناس لم يعرفهم، وربما لن يعرفهم، ويلتقي بتلك القناعة التي تجعله يؤمن بأنه من بين الناس الذين ينعشون الرفض في هذا العالم ويطيلون عمره، وبالنسبة إليه، فإن الأمر لا ينحصر، فقط، في مطالب ستجعل حياته أفضل، وستزيد حظوظه اتساعا في الارتقاء بالسلم الاجتماعي، بل كان يختبر ذلك الكلام الذي لطالما أسره لنفسه، بأن الإنسان يكبر وينضج، فقط، إذا كان قادرا على تحمل هذا الشقاء الذي يجره عليه تمسكه بالحق، ومواجهة فكرة الموت التي قد تشرق في حياته مرات أكثر من الشمس، التي أشرقت على هذا الكوكب منذ بداية الخليقة، وأن قيمته ومعنى وجوده، لا بد أن يُختبرا في يوم ما على أرض الواقع، ويجب أن يكون الموقف آنذاك حاسما، ولا ينطوي على تردد. كان يسر لنفسه، كلما تسللت إليه حاسة النقد والتذمر: «إذا كان يوحدنا المبدأ، فينبغي أن لا تفرقنا طُرق تصريف هذا المبدأ أو الدفاع عنه» وكانت هذه القناعة تعزز إيمانه بالقضية، رغم النقد اللاذع الذي قد يوجهه لبعض الأمور التي لا تعجبه.
إنهم لا يعلمون أي نموذج يصنعون من هذه الجموع التي تنفق مالها وجهدها وتضحي بكل شيء في مواجهة هذا الكيان الذي لا يتقن شيئا سوى التفنن في خلق وإبداع أوجه جديدة للقمع والحصار، إنهم يشحذون جينات لعزيمة ستضرب بجذورها في أعماق هذا التراب لتخاطب القادمين والراقدين، وتجعلهم فخورين بأن ثراهم يطأ عليه مثل هؤلاء، وستجعلهم يصرخون: «لا تخففوا الوطء، لا تخففوا الوطء، ودعونا نتذكر أننا زرعنا شيئا هناك».. وإذا كانوا يفكرون في الكيفية التي يسربون بها الشلل لإرادتهم وثنيهم عن مطالبهم، فقد كان هو، على عكس كل هذه التكتيكات المضادة، يفكر في الكيفية التي سيجسد بها كلمة «لا» في حالة تحقق مطالبه، لأنه يتيقن، كل يوم، أن المقاومة والنضال قدر قبل أن تكون اختيارا، وهم علموه، علموه أن يكون إنسانا بالفعل، وليس بالقول فقط، وهو كان شاهدا على ما قد يجعله يرمي نفسه من أعلى قمة ولا يبالي، ويعذبهم، على الأقل، في جمع أطرافه، لكنه اختار الصمود لأنه يؤمن بأثر الفراشة، ولأنه لم يرد لأمه أن تفقد الثقة في دعواتها، ولم يرد لعرق أبيه أن يذهب سدى.
الشارع ينز غضبا، ومن جانبه، لم يعد يحسب عدد الضربات والسقطات التي كانت في أول الأمر تشكل فارقا، وتجعل عينيه تغرورقان دمعا، وتذكره بجميع لحظات الظلم والقهر التي لم يعرف خلالها إلى من يرفع شكواه، أو أي شيء ينبغي القيام به لرفع تلك الغصة التي تخنق الحياة بين ضلعيه، وحياته بعد العودة، ستكون معلقة على أمل العودة إلى هنا مرة أخرى، إنها عودة تنشد عودة أخرى، تجعله يقول للحياة: «حتى الصرخة الأخيرة، أو السقوط الأخير». كل هذا التوتر، والقلق، لم تغب عنه القدرة على تمييز صوت تلك الأحذية الثقيلة وهي تصطدم بالإسفلت، «الرجال الكمونيون» كما قرأ في إحدى روايات «المديني» يجرون، يطاردون أملا، أملين، آمالا، ويشتد الهتاف، وتكبر الأسئلة، «كيف يمكن للهتاف أن يكون تهديدا يستدعي تجنيد كل هؤلاء الرجال، كل هذه السيارات والمركبات والدراجات؟ أهذا غباء، أم أنهم لا يضعون هتافهم موضعه الذي يستحقه؟ هل يُحَارَبون لأن لهم مطالب؟ أم لأنهم يعكسون قيمة، ويتوحدون حول فكرة؟» وإذا كانت الأسئلة في الأذهان تتناسل، وكأن عدوى السؤال والتفكير تتسرب رفقة عدوى الهتاف، فإن الهراوات كانت تستشيط غضبا وكأنها تفي الناس أجورهم عن الهتاف… وعن السؤال… وإذا كان التاريخ يدوِّن، فإنهم يصرون على أن يطرقوا أفكاره، ويدونوا شيئا من وجودهم في أوراقه، هذا التاريخ الذي لا ترضيه تفاهات الوثائق الرسمية، هذا التاريخ الذي يبحث للغته عن أفق إنساني أكثر تحررا وصدقا، هذا التاريخ الذي يحيا بمن يأملون ويتطلعون، يهتفون، ويهتفون، وينعشون حياة «لا» بكل قطرة عرق تسقط…
لم يستطع النوم تلك الليلة، رغم أن التعب جثم على جسده، لكن ذهنه ما زال متيقظا، كان يحاول تمثل ليلة الأصدقاء المعتقلين، وآلام المصابين، لو يستطيع، لامتص كل تلك المعاناة والآهات التي كان الليل يتنفسها، برودة الإسفلت، العظام المكسرة، والليل يحتكر النسمة، ويجود باليقظة، وفي ظل هذا التقلب، وكره نعمة الدفء الذي يجود بها فراشه اللعين، قرر أن يخرج، تجاهل الحظر الليلي، وقرر أن يخرج… تعمد ألا يحضر بطاقة الهوية، وعندما تحسس الأوراق النقدية في جيبه، أسر لنفسه، أن النشالين، في جميع الأحوال، ليسوا أكثر خطورة من هؤلاء الذين يسرقون أصواتهم وآمالهم نهارا جهارا، وبأبشع الأساليب.

*قاص مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي