سلاحي الأخير

2021-10-28

صالح الرزوق*

لم أجد حلا لمشكلة منيف. كان المفروض أننا لجأنا إلى أبو ظبي هربا من الدمار الذي لحق بحلب. فقد وصلنا للإمارات دون عتاد، والمقصود بلا حقائب، حتى أنه لم يتبق لنا ولو «كيلوت» أو قميص بشيالات. فقد التهمت النار بألسنتها كل شيء.

ومثلما كنا متجاورين في حلب، وكما تقاسمنا لاحقا الخسارة والنهاية المشؤومة، التقينا في أبو ظبي. ولضغط النفقات اكترينا شقة في برج السعادة في شارع المرور.

ومرّ على هذه المأساة السعيدة فصل كامل، لكنه يساوي بطقس أبو ظبي فصلين، شتاء وربيع.

كان هذا هو مستهل صيفهم الحار، ولذلك كنا نستيقظ مع صياح الديك مجازا، فالمدينة حديثة، وليس لها علاقة مع ماضيها الرعوي. كنا نجلس على الشرفة ونشرب القهوة.. ويتم ذلك بطقس صامت.. ثم بعد أسبوع بدأ الحنين يأكل قلب منيف، ودخل في نوبة من الشكاوى. واليوم كان يشتكي من معدته.

قال وهو يئن: أشعر بحموضة في المعدة.

قلت له: ربما بسبب الطعام، ماذا أكلت؟

رماني بنظرة نارية تنم عن حقد أكثر مما تدل على التألم، وقال: حرام عليك يا رجل، لم أضع بفمي لقمة.. ما زلت على الريق.

نفخت بيأس وأنا أتجاهل نبرته، وقلت له: تذكر.. أنت مدمن على الكيك بالكريما، ربما التهمت قطعة ونسيت.

– عيب.. حتى اذهب وتأكد من القالب، ستجده كما هو.

لاحظت أنه أساء تفسير ما أرمي إليه. فهم أنني أحاسبه على الشراهة التي يباشر بها الطعام.

 وتولد عندي إحساس أننا إذا بدأنا اللوم والعتاب لن ننتهي، لذلك لم أسترسل وتمسكت بحبال الصمت.. وانغمست بالمشهد الطبيعي الذي أمامي، كنت أنشد السلوان من الطبيعة الفاتنة، وازدردت القهوة ببطء.

لكن منيف لم يتركني وشأني.. غادر كرسيه وغاب خمس دقائق تقريبا. الحقيقة أنه ذهب إلى المطبخ، وسمعت صوت باب الثلاجة. فتحه وأغلقه، ثم عاد وبمجرد أن اتخذ مجلسه قال: هل تعلم ماذا؟

بذهن شارد قلت له: ماذا؟

تابع: ثلاجتنا تصفر، منظرها يوحي بالمجاعة.. هل لديك خطة للتسوق اليوم؟

لم أكن أحب أن نستمر بهذا المنطق، كانت الثقافة الهضمية تضر بلياقة وسلامة تفكيري.

ومع مرور الوقت أصبحت أمقت التسوق، ولولا وجود مكتبة بسيطة في المولات ربما قاطعتها، وأحيانا أترك منيف يختار لنا طعامنا، وأذهب لقسم الإلكترونيات لأشاهد ما تعرضه شاشات التلفزيون.

قلت له وأنا أنظر لفنجان قهوته: منيف.

قال: نعم.

قلت له: قهوتك بردت، لماذا لا تشربها؟

وسلط عينيه على الفنجان.. كان على «الترابيزة» ممتلئا. ربما لمسه بشفتيه، لكن بالتأكيد لم يشرب منه.. وبجانبه كوب الماء، ثم جريدة عدد الأمس، وقد أتلفتها من القراءة، نقبت في صفحتها الثقافية، واطلعت على عمود لخبير أمريكي عن سياسة بوتين، المهزلة أنهم يخلعون عليه صفات تليق بآينشتاين.

الرجل مجرد رمز، هو ليس شمشون، ولا زورو المقنع أو طرزان، إنه تعبير متأخر عن خوف روسيا من المستقبل، والشخصيات الوطنية تكون من نتاج المخاوف، إسقاط للوعي الجمعي فقط، ويبدو أن ملاحظتي عكرت مزاجه، فرد بعنترية واضحة: يا أخي هو فنجاني وأنا حر.

ثم صمت.. فكر لحظة وتابع: آآآ.. الآن فهمت، لا تريد أن نتسوق اليوم.

قلت له: ذكي، حزرتها وحدك.

وانبرى للتقريع وقال: بخيل.

ورمى ثقله على كرسيه، وهو يدمدم بصوت خافت، ولم أسمع ماذا يقول بالضبط، لكن مد يده وحمل الجريدة، وبدأ يروح بها على وجهه، وانتصب جدار صمت جليدي يعلو بيننا، واغتنمت هذه الهدنة لأستمتع بمشهد زوال الضباب، كان ينقشع من أمامنا، ومن خلفه تتفتح المدينة مثل وردة وسط الصحراء.

وكانت مياه الخليج تتلألأ في نور الشمس مثل اللجين.. فضة سائلة، وخلفها تبزغ أشجار العصر الحديث، أبراج براقة، ولها نوافذ بحساسات، تغلق في الطرف المشمس، وتفتح من الطرف الظليل.

وما أن خمد هيجان روحي، ورق قلبي لهذا المنظر، حتى عاد منيف لعادته، وقال: أوف.. حر. وتابع: المفروض أن نشترك بخدمة المكيف.

قلت دون اهتمام: الوقت مبكر اتركها للشهر المقبل.

قال بتبرم: والله عجيب أمرك.

وألقى الجريدة من يده على «الترابيزة» وأضاف: كل يوم تشتري هذا الورق.. لو حسبتها. سعره يغطي اشتراك 3 أسابيع بالتكييف على الأقل مع قناة on demand.

ولم أحنق على هذا المنطق، ولم أعلق على التكييف، فهو ضرورة فعلية حينما يهجم الحر، لكن قلت بتهكم: وماذا تريد أن تتفرج في «ديماند» على أفلام السيكس أو صيد التماسيح؟

قطب ملامحه، ورماني بنظرة مثل رصاصة، وتوقعت أن يصيح.. أن يشتمني أو يحتج كالعادة، فهو إنسان انفعالي، لسانه بريء من كلامه، إنما كسر نظراته، ونهض من مجلسه، وقال كأنه يكلم نفسه: الكلاوي عندي تعبانة.. يمكن الحالب ملتهب، ثم استدار نحو باب الشرفة، فتحه وهو يقول: لازم أشتري دواء التهاب المثانة.

وأغلق الباب خلفه بلطمة قوية، وترك ذهني معلقا في الفراغ، لقد أفسد هذا الغبي يومي. كنت أحاول تضميد جراح نفسي الملتاعة، لكن مثل هذه الشخصيات لا يهربون من واقعهم، بل ينقلونه معهم، المشكلة فينا وليست ي من حولنا.. وهربت بنظراتي نحو مياه الخليج، كان التيار يزحف بكل الاتجاهات، والضباب يحوم فوقه مثل أنفاس روح معذبة.

 يبدو أن سر الحياة في هذا العذاب، لكن لم أود أن اعترف، وأجبرت نفسي على أن أبتسم، ابتسامة مطاطية، وهي آخر سلاح أمتلكه، ثم سمعت صوت عندليب، وتابعته بنظراتي وهو يرفرف بجناحيه ويعلو، ثم يبتعد بين طبقات الهواء الثقيل والراكد.

 

  • كاتب سوري






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي