دون موضوع

2021-09-17

 

رضا نازه*

مثلَ شيخٍ كبير يحلو له النعاس في غرفة الجلوس وسط ضجيج أبنائه وأحفاده ووصلات الإشهار، كنتُ أنام في خضم الحملة الانتخابية. بينما يجوب الدلالون وأنصار الأحزاب الدروب ويمرون تحت نافذتي، صارخين هاتفين بشعاراتهم وباسم مرشحهم النظيف التقي النقي، كان يحلو لي الشخير.

وما إن يحل ليل الصمت الانتخابي وتفرغ الدروب إلا من قمامةِ المنشورات، حينها يخذلني النوم، ويهمس الأرق في أذني: «أنا نصيرك».

مرّ نصف ليلٍ أحصيتُ فيه الخرفان والشياه والماعز في الظلام.. سُدىً. ثم أحصيت النجوم والكواكب وأبراج الحظوظ، فإذا بأبراج الأسد والجدي والتيس تحيلني على رموز الأحزاب فصرت أحصيها وأعيد، ورماني الأرق بمنشورات الأحزاب، فصرت أتصفح البرامج والوعود وحرب المواقع وإمكانية تحفيظِ الربيع العربي، وتوقعاتِ رهنه وإذا رهنت شيئا فلا بد أن تبيعه في آخر المطاف..

ثم زادتني أرقا حيرةُ التصويت. لمن أعطي صوتي والصوت سوط يمكن أن تُجلد به؟ وأين المفر والتصويت واجب وطني وقد راج الحديث عن فرض غرامة على كل عازف عن قانونه؟ متوجسا قمتُ فتوضأتُ واستخرتُ لعلي أتلقى جوابا أو إشارة تقطعُ تردُّدي، فأخذني النوم أخيرا ورأيت..

رأيتُ سهلا فسيحا مليئا بقفاف البلاستيك المحظورة، ورأيتُ سماءً صافية وشمسا حارقة، ورأيتُ من بعيد شيخا كبيرا مستندا إلى عكازة. لا بد أنه من الحكماء وقد شخَصَ ببصره إلى السماء، اقتربتُ منه لعل جوابَ استخارتي يأتي على لسانه.

وبينما أدنو منه كان شكله الغريب يتَّضح.. التجاعيد مِلءَ وجهِه.. وجذعه ورجلاه تبدو عليها آثار السنين. لعله من المُعمرين القُرُونِيِّين، لكن يا للمفارقة، ذراعاه كانتا مفتولتين كشاب قوي، والعكازة كانت كعصا الرعاة الغليظة. يا لطيف.

ما الذي أتى بي هنا.. ماذا لو كان ضيقَ الخُلُق متقلب المزاج يخبط بعصاه لأتفه سبب؟ الشيخ لم يلتفت. كانت السماءُ قِبلتَه، ينتظرُ حدثا ما بسكينة لا يهزها شيء. لم أتفوه بكلمة. لا عجلة في زمن الحلم ولا استعجال. شيئا فشيئا صارت السماء تتلبد بغيوم رمادية تبدو مطيرة، لا يُدرَى كيف تكونت ولا من أين أتت.

الأغرب من ذلك أن كل غيمة كانت تحملُ على متنها صندوقا زجاجيا فيه لفائفُ تصويت من كل صوب وحدب وكل الأطياف والأحزاب..

يا حسرة.. كأن يوم الاقتراع مرّ وأنا نائمٌ، وهل نمت فور استخارتي إلا لأجل إشارة تحسم ترددي؟ أدهشني المنظر وأذهلني عن السؤال، بينما الشيخ كان مطمئنا لرؤية الغيوم المُحَمَّلةِ بصناديق الاقتراع. احتجبَتْ زرقةُ السماء فوقَ رأس الشيخ الغريب وفوق رأسي.. صار تخوفي الوحيد هو أن ينزلقَ صندوقٌ فيسقطَ على أم رأسي كتخوُّفِي صبيّا من ثريَّات المساجد العتيقة النحاسية الضخمةِ المعلقةِ فوقَ رؤوس المصلين.

كنت أتفادى الصلاة تحتها خشية أن تسقط عليّ وتحطم جسدي النحيف. واليوم أين المفر والسماء كلها سحب وصناديقُ لا يسندها إلا الغمام الكثيف ولا صلاة هناك ولا مسجدٌ ولا إمام..

انتزعني من جزعي نطق الشيخ الوقور صاحب النبُّوتِ الغليظ. أخيرا تكلم. لكنه كان يخاطب السحبَ التي انطلقت تكمل طريقها إلى جهة يعلمها، زدتُ اقترابا كي أميز ما يقول. كانت قد ارتسمت على شفتيه بسمةٌ ماكرة وكأنه يغازِل تلك السحبَ في هدوء ووثوق..

– أيتها السحب الانتخابية.. أيتها الصناديق الموضَّبة.. أمطري حيث شئتِ فسيأتيني خَرَاجُك.. وأجني ثمارَك.. من كل لون ورمز..

التفت إليّ كأنه أحس بحضوري أخيرا، وقال دون سؤال:

– لقد كُفيتَ همَّ الاقتراع، عُد إلى يقظتك.. الحاجة مقضية.. أيًّا ما كان اختيارك أو لا اختيارك فقد اخترنا لك.. والأمر سيان..

– من أنت أيها الشيخ الوقور؟

– مِن عادتي في اليقظة أن لا أجيب لأنني لا أُسألُ عما أفعل برعاياي الأوفياء فقط هم من يُسألون.. لكن بما أننا في حُلم ديمقراطي كبير فسأقول لك من أنا.. أنا المَخــْ..

مد الشيخ حرف الخاء وأشبعه وأشمه وقلقله وقلقلني حتى انتبهت من نومتي مفزوعا أردد «زْنْ.. زْنْ.. زْنْ» لا أدري ما أقول ولا أعيه.. ثم لفت انتباهي شيء غريب في إبهامي. كان مخضوبا بحبر التصويت العنيد أتيت به من حلمي.

كيف وأنا لم أصوت لأحد ولا أذكر في حياتي كلها أنني فعلت قط. ولن أفعل. ما دام الإكراه واقعا حتى في غيابات الحلم..

 

  • قاص مغربي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي