الروائي المصري محمد علي إبراهيم: على القارئ أن يمارس عنصريته بنفسه

2021-09-09

ماذا يحدث إن خلعنا أجسادنا وتعاملنا كأرواح فقط؟

محمد الحمامصي*

لا يمكن إنكار أن الجوائز الأدبية ساهمت في تحريك المشهد الأدبي العربي بشكل كبير، ولا أدل على ذلك من عودة الكثير من الكتاب إلى كتابة القصة القصيرة بعد إطلاق جائزة الملتقى الخاصة بهذا الجنس الأدبي، واتجاه شعراء ونقاد وغيرهم إلى كتابة الرواية لأهمية جوائزها.

وفي حوار مع “العرب” تحدث الكاتب المصري محمد علي إبراهيم حول الرواية والجوائز.

تأتي أبرز تجليات أفكار ورؤى الكاتب والروائي والقاص المصري محمد علي إبراهيم من انشغالاته بالواقع وتساؤلاته المهمشة عن الحياة والموت، الحرية والقمع، الروح والجسد، الغياب والحضور، حيث يلتقط تلك التساؤلات من علاقاتها بحيوات الناس وأزمنتها وأمكنتها، والأحداث التي يمرون بها باختياراتهم أو تلك المكرهون على تلقيها ومعاركتها، وهو الأمر الذي انعكس على لغة سرده وأسلوبه فجاءت مفعمة بروح الشعر والمعرفة مشحونة بتعددية العوالم وثراء الدلالات.

وربما كان لدراسته لهندسة التعدين والفلزات وعمله بنفس التخصص أثره على تلك الأفكار والتساؤلات التي هي نتاج حفر وبحث وكشف، فالأرض وما تحمله في باطنها من معادن لم تتكون في يوم وليلة بل تشكلت عبر الآلاف من السنين، وهذه الثروات التي تحملها الأرض في باطنها نتاج تفاعلات بين مكونات حية وميتة. وهكذا الحيوات تراكمات وتفاعلات بفعل الأزمنة والأمكنة.

رواية “روح”

في رواية "روح" يصبح الزمن صفرًا لا مستقبلا أو حدثا من الماضي فأحداثها تقع في لحظة واحدة

قدم إبراهيم خمس روايات “الجدار الأخير”، “الولد كوريا”، “أعلمها اللمس”، “حجر بيت خلاف”، وأخيرا “روح” الصادرة عن دار تبارك للنشر، ومجموعتين قصصيتين؛ “تأريخ لا يروق لكم”، “طعم البوسة”، و”أنت حر ما دمت عبدي” (متتالية قصصية)، وفي الشعر قدم مجموعتين؛ “مواويل الثرى”، “صحاب”. وفي هذا الحوار ننطلق معه من الرواية الأخيرة “روح” لنتعرف بعدها على تجليات رؤاه الروائية.

بداية يؤكد إبراهيم أنه لم يكتب بعد روايته الأخيرة، ويقول “هناك رواية انتهيت من كتابتها بعد ‘روح‘، وهناك أخرى تداعبني وأداعبها، لكن لكل رواية قصتها التي لا يعرفها أحد سوى من كتبها، وهي إجابة عن سؤال: كيف بدأت الرواية وفكرتها؟، كنت في ندوة لمناقشة رواية ‘أعلمها اللمس‘، خلال الندوة حضرتْ امرأة ترتدي زيًا محافظًا للغاية، لمحتُ في عيون الحاضرين نظرةَ تساؤل أحمق: ما الذي أتى بها إلى هنا؟ وتكاد ضحكات السخرية أن تنفجر وسط الأسئلة التي يوجهها إليَّ الحاضرون”.

ويضيف “كنت أعرف المرأةَ جيدًا بقدر ما يجهلونها، عندما بدأتْ مشاركتنا الحوار، نسي الناس زيها المحافظ، والتفتوا إلى ثقافتها وقدرتها على قراءة النص الروائي، لم أكن معهم سوى بالجسد، كانت ‘روح‘ تحتلني تدريجيًا، تلك المرأة كانت ملهمتي دون أن نتفق أو تنصب لي شركًا، السؤال حاصرني: ماذا يحدث إن خلعنا أجسادنا وتعاملنا كأرواح فقط؟ بعد انتهاء الندوة كانت الرواية قد أعلنت مولدها: ألوان متباينة وأجساد بلا ملامح، ثم أبدأ في تفكيك تلك اللوحة بحرص لأحصل على أبطال الرواية وتبدأ الكتابة”.

وحول لعبه على مستويات متعددة: الحكاية والفكرة والزمن، والعوالم المتوازية: العالم العلوي وعالم الأعراف والعالم السفلي؟ يشير إبراهيم إلى أنه ثمة يقين داخل كل فرد، هذا اليقين لا يتكئ على مسلّمة رياضية أو نظرية علمية أثبتت جدارتها، هو يقين “ارتاحت” له روحه الخاصة، لذا يجلس لوقت طويل محاولًا استدعاء حيواته

الأخرى، ويلجأ للخيال أو الوهم، ليطرح الأسئلة: ماذا إن كنت موجودًا في القرون الوسطى، ماذا فعلتُ عندما قابلت الأنبياء ـ في عمر لا أدركه ـ وهم ينادون برسالاتهم السماوية، هل ظللت على ديني أم ذهبت إلى دين جديد أم كفرت بكل هذا، هل كنت من الضحايا المؤقتين لهيروشيما وناجازاكي، كيف صارعتُ الديناصور الأخير، هل كان لروحي حظ في أن تحتويها أنثى، هل كان اسمي كارولين أم زينب؟

العديد من الأسئلة تكفي لتصاب بدوار البحر وتنتج روايات كثيرة، تلك هي الحكايات والفكرة، كان على رواية “روح” أن تجرب اللعب مع زمن يساوي صفرًا ليجتمع المليارات من البشر من كل العصور، فجاءت “الوردة” لتحوي هذا العدد من الناس، وتضع العوالم المتوازية في عالم واحد مؤقت؛ يصيب الناس الضجر فيعودون إلى عوالمهم المتباعدة.

   

يؤكد محمد علي إبراهيم أنه لم يكتب بعد روايته الأخيرة، ويقول “هناك رواية انتهيت من كتابتها بعد ‘روح‘، وهناك أخرى تداعبني وأداعبها

ويضيف “حاولت أن أكون محايدًا؛ فلم أنتصر حتى لقناعاتي الشخصية، كل قارئ يستطيع الانتصار لنفسه، هكذا سيقرأ الجميع على اختلاف مذاهبهم الرواية دون إحساس بفوقية الراوي وانتصاره لذاته، على القارئ أن يمارس عنصريته

بنفسه، فالراوي هنا لم ينتصر للغة على حساب أخرى، ولا لدين على حساب آخر، فتحدث الجميع بلاعين، والكتاب كان بالرسم، حتى أن شخصية الموسيقار في الرواية عندما كانت تتغلب عليه ثقافته وعاداته وتقاليده، كان يعترف بذلك ويطلب من القارئ أن يتجاوز تلك التعليقات”.

يكشف إبراهيم عن حضور الزمن في الرواية كتيمة أساسية، لافتا إلى أن “الحوار المطول بين الموسيقار وعالم الفيزياء بول ديفيز في حقيقته هو محاضرة لبول ديفيز عن الزمان وفيزياء الكم، أعلم جيدًا أن القارئ سيُرهق في تلك القراءة، لكن كان لا بد من ‘كوبري‘ ليتفهَّم الناس فكرة الزمن وأن يصبح صفرًا، لا مستقبلا أو حدثا من الماضي، كلها لحظة واحدة، هذا هو رهان الرواية، لا وجود لحرف ‘السين‘ المستقبلي، فأصبحت المسافات تمثل الزمن، وأصبحت الأفعال كذلك، في غياب الشمس والقمر والليل والنهار، وجدت أن وضعية الحوار ستلطف بعض الشيء قسوة المادة العلمية، حاولت الاختزال عدة مرات حتى وصلت إلى الشكل الذي تمت طباعة الرواية به”.

وحول ما إذا كان عنوان “روح” للرواية اسما أم حالة أم كائنا كونيا، يقول “ويسألونك عن الروح، روح اسم حقق لي إجابات كثيرة ارتاح لها ضميري الفني؛ اسم روح ليس دالًا على عنصرية أو تحيز ديني، هو قابل لكل دين حتى الملحدين، هو اسم رمادي، كما أنه لغزنا في الحياة، روح سمّيت به المرأة التي حضرت الندوة، وروح هو كأنه الكون كله”.

الجوائز هي البديل

"حجر بيت خلاف" رواية صنعت جمهورها، ربما افتقد القراء والنقاد لتلك التجارب فوجدوا ضالتهم فيها فالتفوا حولها

يلفت إبراهيم إلى أن كل رواية  من رواياته لها لعبتها، لكنه يقر بأن رواية “حجر بيت خلاف” ـ بجمهورها الواسع ـ تطارده لوقت طويل عبر أسئلة القراء، ويعتقد أن رواية “روح” خارجة عن إطار كل ما كتبه، وليس “حجر بيت خلاف” فقط، فهذه الأخيرة لها بطل شعبي جديد وغرائبيات تخصها فقط، أما “روح” فهي رواية الأسئلة، والقلق وما لا نراه في حياتنا.

ويتابع “حجر بيت خلاف رواية صنعت جمهورها، ربما افتقد القراء والنقاد لتلك التجارب فوجدوا ضالتهم فيها فالتفوا حولها، وهي مخطوط ورقي فازت بجائزة جمال الغيطاني، وعندما خرجت كمنتج ورقي، حظيت بالعديد من القراءات النقدية من أقلام محترمة ومشهود لها بالنزاهة، حتى ذهبت إلى القائمة القصيرة لجائزة نجيب محفوظ في الجامعة الأميركية، حققت القائمة القصيرة انتشارًا جديدًا للرواية من جمهور يهتم بمتابعة الجوائز الكبرى، تعلق القارئ بالجيوكندا وهي تخرج من اللوحة، لقد صدّقوا هذا الأمر، وهذا نجاح أكبر من أيّ جائزة”.

ويضيف “عندما تفحصت الروايات التي رافقت ‘حجر بيت خلاف’ في القائمة القصيرة، انزعجت من اختلافهم الواضح على كل المستويات، وكأن كل محكّم في لجنة التحكيم قد اختار رواية ـ توافق ثقافته وذائقته ـ ليصنعوا قائمة قصيرة، كنت سعيدًا بوجود المغربي عمران في تلك القائمة، شعرت وقتها ببعض الألفة، وهنأت الطيباوي

عند إعلان فوزه بالجائزة، لقد حزنت على خسارتي لخمسة آلاف دولار قيمة الجائزة المادية، لكن شعرت بتحرر من ثقل آخر كان سيطارد الرواية بفوزها بجائزة جديدة، يكفي فوزها بجائزة الغيطاني، وترشحها للترجمة من خلال مبادرة أقلام عربية بالشراكة مع معرض فرانكفورت للكتاب، ولكن كما يقولون ‘الصيت ولا الغنى‘، ترشحت للجائزة ولم تفز وترشحت للترجمة ولم تترجم.

لكن يظل سيد أبوسباق وفارس الدشناوي وأحمد الرشيدي والشيخة زينب وميمونة والشيخ عبدالنعيم يمارسون الحياة كلما فتح قارئ الرواية وبدأ يقرأ”.

ويرى إبراهيم أن الجوائز أصبحت البديل الموضوعي للنقد، يقول “عندما تفوز بجائزة ستسنح لك الفرصة لقراءة ما كتبه المحكمون حول روايتك، وعندما تفوز بجائزة ستجني مبالغ متفاوتة، الجوائز وسيلة مهمة لربح الأموال ولمزيد من الشهرة. لكن يبدو أن كثرة المعروض من الجوائز حاليًا أضعفَ قيمتها الفنية، فلم تعد

الجوائز تمنح ميثاقها بشرعية المبدع، أقرب الأمثلة على ذلك جائزة مهمة للغاية وهي أحمد فؤاد نجم لشعر العامية، كل عام الجائزة مطالبة بإنتاج عشرة فائزين بقائمتها القصيرة، ووفق حاجز عمري ثابت، وتاريخ محدد للنشر، هل ستفرز مصر عشرة شعراء مبدعين كل عام؟ وإن استطاعت فكم عاما ستستمر في الإنتاج؟ قد يبدو كلامي صادمًا، يمكنك تتبع تاريخ الجائزة ومطالعة المنتج النهائي وبعدها يمكننا الحوار بهدوء”.

الكتابة هي متعة الكاتب التي ينتخبها على مهل وطريقته لفض الاشتباك بشكل مؤقت مع عقله الباطن

ويؤكد إبراهيم أنه يمارس برغبة الحياة “الكتابة هي متعتي التي انتخبتها على مهل، طريقتي لفض الاشتباك بشكل مؤقت مع عقلي الباطن، الكتابة هي فعل المجاز لاسمي، وهي فعل مقدس، كل من استهزأ بالكتابة أو استسهلها لن يظل اسمه على أرفف المكتبات، سينتخب الزمن الصادقين”.

وعن الحالة السردية في مصر خلال العقد الأخير يوضح “أحاول القراءة والمتابعة، لاحظ أن كلامنا حول العقد الأخير حتى لا أُتَهَمَ بالتجني أو بالتعالي على المبدعين الأقدم تواجدًا، الإنتاج ضخم للغاية، لكنه زائف، ستأخذ وقتًا لتكتشف ضالتك في الكتابة الجادة، لكنك ستجدها، وستجد أفقًا في التجريب، هناك من أنتج عدة روايات فأصبح قادرًا على القبض على منجزه، أو ما يحاول إنجازه، وهناك من كتب روايته الأولى فتوقن أنه مزق العديد من الروايات قبلها”.

ويتابع “سعيد للغاية بعودة الروح إلى القصة القصيرة خلال الفترة الماضية، وللحق لا نستطيع تجاهل دور جائزة الملتقى للقصة القصيرة في هذا الشأن، عشرون ألف دولار أميركي قادرة على عودة الكاتب إلى كتابة قصة قصيرة جيدة، مفهوم الكاتب الكبير كان مركزًا على مبدعي الستينات والسبعينات، فعل الزمن لعبته وتساقط العديد بفعل الموت، لم يبق منهم الكثير، ومن بقي منهم لم يعد سوى القليل جدًا مهتمًا بمواصلة الكتابة، هذا منح

‘المبدعين الجدد‘ فرصة للتحليق بأعمالهم بحرية نسبية، لن أذكر أسماء بعينها حتى لا أتورط مع الزهايمر فأنسى بعض الأسماء، لن أقول إن كتابات محمد الفخراني، أحمد الملواني، حسن عبدالموجود، مصطفى الشيمي أحرص على قراءتها، ولن أنصح بمتابعة أحمد أبودياب، أحمد حلمي، إسماعيل وهدان، ولن أقول إن رواية محمد إبراهيم طه ‘شيطان الخضر‘ فاتنة، ولن أصرّح بمحبتي لكل ما يكتبه عزت القمحاوي بالطبع“.

   

إبراهيم يشير إلى أنه ثمة يقين “ارتاحت” له روحه الخاصة، فيجلس لوقت طويل محاولًا استدعاء حيواته الأخرى، ويلجأ للخيال أو الوهم، ليطرح الأسئلة

ويتابع “تستطيع ألعاب التسويق أن تؤمّن للكاتب بيع العديد من الطبعات واحتلال صدارة البيست سيلر، لكنها لن تستطيع أن تجعل ناقدًا مثل سيد الوكيل أو محمود عبدالشكور يكتب عن الرواية..

جائزة البوكر الأخيرة كانت تحمل في هوامشها ما هو أهم من الرواية الفائزة، هناك كاتب دخل القائمة القصيرة برواية “عين حمورابي” يؤكد في حديثه على صفحة الجائزة أن روايته لم يقرأها سوى أصدقاء لم يتجاوز عددهم أصابع الكف الواحدة، لكنها وصلت للقائمة القصيرة، هو لم يمتلك مسوقًا جيدًا، لكن الرواية دافعت عن وجودها عندما وجدت من يقرأها.

وعن أعماله القادمة يلفت إبراهيم إلى رواية قيد النشر بعنوان “اسمي سرطان”؛ رواية بطلتها الحكاية، نصف الرواية في صعيد مصر في قرية دندرة بأقصى الصعيد، ونصفها الثاني في هافنارفوجودور في أيسلندا، ترافقنا طوال الرواية خلية سرطانية اسمها تاليا، هناك العديد من السرطانات، سرطان اللغة، الحضارة، الثقافة، المكان،

الزمان، وسرطان العقل المتحجر. رواية أتعبتني للغاية على المستوى النفسي، لم أشفِ منها بعد. كما أشتغل على رواية أخرى بعنوان مؤقت “الإسرائيلية”، قد يصبح نهائيا، ستستغرق بعض الوقت في التحضير والمذاكرة، في “أعلمها اللمس” تنقلت الرواية بين أسيوط وأسوان، في “حجر بيت خلاف” كنا في سوهاج، في “اسمي سرطان” تحركنا من قنا، أمَّا “الإسرائيلية” فسنتحرك من ملوي بمحافظة المنيا، أتمنى أن تكون رحلة ممتعة.

 

  • كاتب مصري

 

 

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي