قصة حياتي

2021-09-01

سعد هادي

لم أجد أحداً في قاعة الاستنساخ، انتظرتُ لبضع دقائق ثم غرستُ شريحة الذاكرة في أقرب كمبيوتر، بعد لحظة ظهر مستند الـوورد الوحيد في الشريحة على الشاشة، كان يحتوي على قصيدة لي بأربع صفحات عنوانها «زمن آخر»، ضغطتُ على أمر «اطبع»، فدبَّت الحياة في جهاز الاستنساخ، وخرجتْ من فتحتِه السفلى صفحات كثيرة، رفعتُها وتصفَّحتها، كانت عشرين، يتصدر صفحتها الأولى عنوان بخطٍ كبير هو، قصة حياتي- الفصل الأول.

قلتُ لنفسي: لعلّي ارتكبت خطأً، ليس في الشريحة مستند يحمل هذا العنوان، ضغطتُ على أمر «اطبع» مرةً أخرى، فظهرت بعد ثوانٍ عشرون صفحة تحمل عنوان، قصة حياتي- الفصل الثاني.

انتزعتُ شريحة الذاكرة، مسحتُها بطرف قميصي وغرستُها في الكمبيوتر ثانية، فتحتُ المستند وضغطتُ على أمر «اطبع»، فتكررت الأعجوبة للمرة الثالثة، خرجتْ من باطن الجهاز عشرون صفحة تحملُ عنوان، قصة حياتي- الفصل الثالث.

ارتبكتُ وتطلَّعتُ من حولي، لم يكن هناك أحد سواي في قاعة الاستنساخ، لم تختلط أوراقي مع أوراق شخص آخر، لا وجود لمن يحاول أن يمازحني أو يخيفني، من أين جاءت هذه الصفحات إذاً؟

بعد برهة دخل إلى القاعة أحد موظفي المكتبة، شرحتُ له ما حدث، نظر إلى وجهي محاولاً فهم ما أقول، ثم سألني:

- أين هو المستند؟

أشرتُ إلى الشاشة وهمهمتُ:

- ما يطبعه الجهاز ليس الصفحات الأربع فيه وإنما...

لم يدعني أكمل كلامي، ضغط على أمر «اطبع» وهتف بي:

- اذهب وخذ صفحاتك من هناك.

رفعتُ الصفحات العشرين التي كانت تحمل عنوان، قصة حياتي- الجزء الرابع، وعدتُ بها إليه، قال حين رآني مكفهر الوجه:

- أهناك خطأ؟ لا بأس، لنحاول من جديد.

كرَّر ما فعله فظهرت عشرون صفحة تحمل عنوان، قصة حياتي- الفصل الخامس، وضعتُها أمامه وشرحتُ له بتأنٍ ما الذي يحدث، قال:

- ولِمَ لم تخبرني بذلك؟

أردف وهو يسير نحو باب القاعة:

- انتظر قليلاً، سأخبر المشرف على الأجهزة عما يجري.

جاء المشرف بعد دقائق، كان شاباً نحيفاً وطويلاً، ظلَّ ينظر إلى شاشة الكمبيوتر بعينين زائغتين، بينما أشرح له مشكلتي، ثم زمَّ شفتيه، وضغط على أمر «اطبع».

غمغمتُ وأنا أعود إليه بالصفحات العشرين التي يعلوها عنوان، قصة حياتي-الفصل السادس:

- الخطأ نفسه يتكرر.

فكّر قليلاً ثم قال:

- سوف أستنسخ المستند، وأنقله على سطح المكتب، ولنرَ ما سيحدث.

قام بذلك وضغط على أمر «اطبع»، فظهرت عشرون صفحة جديدة تحمل عنوان، قصة حياتي-الفصل السابع.

قلت بيأس:

- إنها المشكلة نفسها.

ضرب منضدة الكمبيوتر بيده ودمدم:

- ما الذي يحدث؟ أي عبث هذا؟

أغلق المستند وفتحه أكثر من مرة، ثم ضغط على أمر «اطبع» وذهب بنفسه إلى الجهاز، التقط الصفحات العشرين التي تحمل عنوان، قصة حياتي- الفصل الثامن، قلتُ بارتباك حين ألقاها على المنضدة أمامي:

- آسف، لا شيء تغيَّر، هذه الصفحات ليست لي.

ارتسمت ملامح الغضب على وجهه وصاح بي:

- ماذا تقول؟ أتحاول أن تسخر مني؟

دخلتْ إلى القاعة امرأة ترتدي صدرية زرقاء طويلة، سألته:

- لماذا تصرخ هكذا؟ أأنت مجنون؟

لم يرد، استدار وخرج، أعدتُ شرح المشكلة للمرأة بإيجاز، هزَّت رأسها وضغطت على أمر «اطبع» مرتين وقالت:

- اذهب وخذ أوراقك، إنها بلا أخطاء الآن.

تكرر ما حدث في المرّات السابقة، أرسل لي الجهاز فصلين جديدين من قصة حياتي هما التاسع والعاشر.

دخل إلى القاعة بعد ذلك أشخاص لا أعرفهم، شرحتُ لهم ما يحدث فضغطوا على زر «اطبع»، وسمعني آخرون وأنا أتحدث، ففعلوا الأمر نفسه، لتتالى فصول من قصة حياتي، لا أعرف كم بلغت، حتى جاء موظف الأمن في المكتبة، قال لي:

- رأينا كل ما فعلته منذ نصف ساعة، ألا تعرف أن المكان مراقب بالكاميرات؟

ضغط على زر «اطبع» واستطرد:

- سأقوم بالمهمة للمرة الأخيرة، وعليك أن تغادر المكتبة بعد ذلك.

أضفتُ الأوراق التي أرسلها جهاز الطبع وحملتْ عنوان، قصة حياتي- هوامش واستدراكات، إلى كدس الأوراق الضخم، وسرتُ نحو باب الخروج، لكنني تعثَّرتُ قبل أن أصل إليه، سقطتُ وتناثرتْ قصة حياتي من حولي، ضحك بعض قراء المكتبة، ونظر إليَّ بعضهم الآخر بلا مبالاة، وساعدني قرّاء آخرون على النهوض، أو قاموا بجمع الأوراق معي، ومنذ ذلك الحين وأنا حزين ومشتت، أجلس وحيداً في غرفتي، أحاول ترتيب الأوراق بلا

جدوى، أقرأ فيها حكايات لا ترابط بينها، يتداخل بعضها مع البعض الآخر، حكايات ما ان تبدأ حتى تنتهي، وأخرى لا تبدأ ولا تنتهي، حكايات بلا تسلسل وبلا مغزى، مقطعة الأوصال، تدور حول نفسها وهي تبكي وتضحك، حكايات عن رجل يغرق في بحرٍ من الأوراق، مليئة بالأسرار والذكريات والاكاذيب والترهات والأباطيل، أهو أنا؟ أهو شخص آخر؟ أهو لا أحد؟ لم يعد يهمني ذلك، سأحتفظ بتلك الأوراق لنفسي، لن يطّلع عليها غيري، سأخفيها بعيداً عن الأنظار. 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي