طلعت شاهين: الرواية العربية ليست في خطر

2021-08-24

إذا أردت أن تعرف أسرار الحياة الحقيقية عليك بالمرأة

محمد الحمامصي*

قد يكون الواقع في بعض البلدان العربية غرائبيا إلى درجة ارتقائه مرتبة الأدب، وقد حفز الواقع الكثير من الأدباء لينطلقوا منه لتدوين أعمال أدبية لافتة خاصة في مجال الرواية.

وفي هذا الحوار  الذي أجرته معه “العرب” نبحث مع الكاتب المصري طلعت شاهين، الذي استلهم روايته الأخيرة من واقعة الفيضان، في التأثير المتبادل بين الواقع والأدب.

تتناول الرواية الثانية للكاتب المصري المقيم في إسبانيا طلعت شاهين بعنوان “مقام الفيضان” تطور إحدى القرى المصرية في الصعيد منذ كانت تتحول إلى جزيرة صغيرة خلال أشهر الفيضان

قبل بناء السد العالي في ستينات القرن العشرين، وكيف سطت المدينة على قرى الصعيد البعيد من خلال جذب أبناء تلك القرية، فكانوا يهجرونها إلى بلاد توفر لهم المال والرخاء، حتى بقيت

الشخصية الرئيسية في الرواية “البسة”، تلك المرأة العجوز ذات العيون الملونة الغريبة عن جماليات الصعيد الأسمر الذي لونته الشمس منذ زمن بعيد حتى استحقت لقب “البسة” أو “القطة”.

رواية شاهين، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، هي الثانية بعد العشرات من الأعمال المترجمة وأربعة دواوين شعرية، ومن خلال بطلة الرواية العجوز التي تسكن بوابة بيت الكاشف الغربية وتطوّر حياتها وذكرياتها في تلك البوابة وكانت الساكن

الوحيد، تنطلق أحداث الرواية كما يرويها الراوي، فالبطلة هنا لا تروي، ولكن حياتها تعتبر الخيط الرئيسي الذي تنبع منه باقي شخصيات الرواية منذ طفولة بعيدة مغرقة في الغرابة إلى واقع عزلة تعيشها الآن.

وبتطور الحياة في تلك القرية المنعزلة والبوابة التي يغادرها أبناؤها تحاول تلك العجوز أن تصنع حياة جديدة تجعلها مركزا للحياة ليس في القرية وحدها، بل تمتد إلى البلاد المجاورة حتى تصل إلى أن تكون مركز حياة مصر المعاصرة بكل تطورات حياتها الإيجابية والسلبية.

واقع أسطوري

يقول شاهين “إن رواية ‘مقام الفيضان’ سبقتها رواية ‘البرتقالة والعقارب”، التي صدرت في طبعة إسبانية أيضا، وكانت أقرب إلى السيرة الذاتية لأنه تناول فيها تجربته المرضية في أحد مستشفيات مدريد، التي قضى فيها شهرا كاملا عام 2011.

ويضيف “الحقيقة أنا لم أنتقل من الشعر إلى الرواية بل كانت الرواية طريقي الأدبي الأول بعد الفن التشكيلي خلال مرحلة التكوين، ولك أن تعرف أن أول جائزة في حياتي كانت عن لوحة تشكيلية في المرحلة الإعدادية، تبعتها برواية لم تكتمل بعد أن هجرتها إلى الشعر، وظلت كامنة في الذاكرة إلى أن تحولت إلى تمثيلية إذاعية من سبع حلقات ‘سباعية‘ أُذيعت بإذاعة الشعب عام 1978، وكانت بعنوان ‘النيل والبارود‘، تناولت الحملة الفرنسية على الصعيد ومعركة ‘البارود‘ الشهيرة التي أنهت تلك الحملة بتدمير سفينتها التي كانت تحمل ذخيرة أو بارود تلك الحملة التي قادها ديزيه وعاد مكللا بالعار”.

"مقام الفيضان" حكاية طريفة وواقعية لإحدى عجائز القرية التي قررت أن تقيم مقاما لشقيقها مجهول المصير

ويشير شاهين إلى أن فكرة “مقام الفيضان” كانت في ذاكرته كنوع من الذكريات الطفولية الأولى، لأنها كما يقول “تتناول طفولتنا عندما كان يفيض النيل قبل بناء السد العالي فيغرق حقولنا وسهولنا

في الصعيد ويحول قرانا الصغيرة إلى جزر منعزلة طوال أشهر الصيف، إلى أن ظهرت الفكرة على السطح بتلك الحكاية الطريفة والواقعية لإحدى عجائز القرية التي قررت أن تقيم مقاما لشقيقها

مجهول المصير، الاحتمال الأكبر أنه مات غرقا في فيضان النيل، فكان هذا الحدث الواقعي الذي قد يراه البعض أسطورة مختلقة دافعا لكتابة تلك الرواية التي حاولت من خلالها تسجيل وقائع

الفيضان الذي لم يعد يعرفه أحد أو يتذكره بعد سنوات طويلة من اختفائه من حياتنا بعد بناء السد العالي، وكانت الفكرة سابقة ولا علاقة لها بما يثار حاليا حول مصير النيل ومصر بعد سد النهضة الإثيوبي وخطره الداهم على حياتنا.

الكتابة الأولى للرواية بدأت في منتصف عام 2014 وأعيدت كتابتها عدة مرات لتصل إلى صيغتها النهائية عام 2018، في الحقيقة كانت فرصة لاستعادة ماضي القرية المصرية في الصعيد بحكاياتها الأسطورية القديمة”.

وحول وجود دلالة سياسية وراء اختياره لقرية في عمق الصعيد في زمن ما قبل بناء السدّ العالي رغم أن الزمن الحاضر لم يبتعد كثيرا في ظل الأمية والجهل المنتشرين بطول البلاد وعرضها.

يوضح شاهين “أولا القرية هي قريتي أبنود التي نشأت فيها، ولم أسمها في الرواية لأن حكايتها تنطبق على أي قرية صعيدية في جنوب مصر، وثانيا لأن الحدث الذي فجر فكرة الرواية كان حدثا واقعيا، وكذلك الشخصية الرئيسية التي ارتبط بها هذا الحدث كانت

شخصية واقعية، ويوجد في حياتنا الكثير مثلها من شخصيات ووقائع تبدو أسطورية ولكنها واقعية فعلا، إلا أن البعض يخجل من اعتبارها أدبا حقيقيا لو تناولناها مع أن غرائبيتها لا تختلف كثيرا عن غرائبية ‘الواقعية السحرية‘ التي تثير إعجابنا في أدب أميركا اللاتينية”.

ويتابع الكاتب “أعتقد أن روايات متشابهة سبقت تتمثل الواقع الذي يبدو أسطوريا مثل ‘الطوق والأسورة‘ التي كتبها يحيى الطاهر عبدالله في سبعينات القرن الماضي، لكن النقاد تجاهلوها رغم

إعجابهم برواية ‘الواقعية السحرية’ في أميركا اللاتينية. أما هدف الكتابة أو الرسالة التي أرادت الرواية أن توصلها لا يجب أن أكشف عنه، تلك مهمة النقاد والقرّاء، فالكاتب يصيغ ما لديه من أفكار ربما لأهداف يقصدها ولكنها تخرج في النهاية كإبداع يحمل الكثير من الرسائل التي يجب أن يشعر بها القارئ باعتباره المستقبل لتلك الرسالة، وليس على الكاتب أن يفسر أو يكشف عما كان يريد من كتابته”.

ويوضح شاهين أسباب اختياره لامرأة كبطلة “المرأة في العالم كله بشكل عام؛ وقرى صعيد مصر بشكل خاص؛ تعتبر أصل الحياة، والمحرك الأول للكثير من أحداث التاريخ ومخزن الذكريات، وإذا أردت أن تعرف أسرار الحياة الحقيقية عليك بالمرأة خاصة ‘العجائز‘ منهن، لأنهن يراقبن الحياة من ركن البيت في الأسرة الصغيرة ومن حكايات كل واحدة منهن تخرج خيوط تبدو صغيرة، لكنها تصنع في النهاية الحبكة الأسطورية لتلك الحكايات بما يصبغنه في تلك الخيوط من خيال واسع يجد لكل غموض لونا مثيرا يصنع حياة جديدة في كل تلك الأساطير”.

الرواية في خطر

يرى شاهين أن الرواية وغيرها من أنواع الإبداع الأخرى لا تملك وحدها مفاتيح التغيير المجتمعي، ولكنها قد تكون إحدى الأدوات التي تساعد على التغيير، وفي حالة المجتمعات العربية لا يعتقد أن الرواية أو الشعر أو الفنون التشكيلية والسينما وغيرها من أنواع الإبداع يمكنها أن تغير شيئا ما لم تكن مصاحبة لحركة تنويرية متكاملة تتضمن التعليم والصحة.

ويضيف “أعتقد أن المجتمعات العربية تعيش حالة من تجاهل التعليم والصحة العامة رغم كل ما تراه من جامعات تنتشر في كل مكان، لأن مؤسساتنا العلمية تفتقد إلى رؤية حقيقية؛ ومعظمها مجرد مظاهر دون رؤية تهدف إلى خلق مجتمع جديد.

في ظل غياب دعم التعليم والمؤسسات العلمية يكون أي إبداع محدود التأثير، وفي رأيي هذا واقع المجتمع العربي بشكل عام والمصري بشكل خاص، وإلا ما تعرض نجيب محفوظ لمحاولة قتله بعد حصوله على أكبر جائزة أدبية في العالم، مجتمعاتنا تحتاج إلى ثورة فكرية حقيقية حتى تتمكن الرواية من التأثير فيها وتغييرها”.

الرواية وغيرها من أنواع الإبداع الأخرى لا تملك وحدها مفاتيح التغيير المجتمعي لكنها قد تساعد على تحقيقه

ويؤكد أن “الرواية العربية موجودة وليست في خطر، لكن غياب النقد الموضوعي الحقيقي الذي يمتلك نظريات نابعة من واقع المجتمع الذي ينتج هذه الرواية وليس تطبيق نظريات جاهزة أبدعتها مجتمعات أخرى مختلفة عنا هو الخطر، وأيضا أن يكون هؤلاء النقاد من المتابعين لكل ما يصدر من أعمال روائية وأن يكون هدفهم تقديم رؤية موضوعية”.

 لكن للأسف، يذكر “أن معظم النقاد البارزين على ساحة النقد مجرد مجاملات للأصدقاء وتجاهل من لا ينتمي إلى جماعتهم، وحتى من يتناولون بالنقد كتابات أصدقائهم فإن نقدهم مجرد أبحاث للترقية في الجامعات أو مقالات صحافية انطباعية سريعة ‘أكل عيش’.

 لا يوجد ما يمكن أن نسميه الرواية المضادة، ولكن قد تأتي بعض الأعمال الروائية المخالفة للسائد في مرحلة ما، وهذه الرواية مطلوبة لإحداث هزة تخرجنا من السكون، وفي حقيقتها ليست روايات مضادة ولكنها قد تكون مقدمة لمرحلة جديدة من الأعمال التي تضيف إلى الكتابة الروائية القائمة وتدفع بها نحو طريقة جديدة للكتابة”.

وحول رؤيته لأبعاد وتأثيرات الإنترنت ووسائل التواصل والاتصال على الرواية وتفاعل الروائيين معها، يرى شاهين أن “أي أداة يمكنها أن تترك تأثيرا سلبيا كما تترك تأثيرا إيجابيا، والفارق في الحالتين يعود إلى المجتمع الذي ينتمي إليه الأفراد الذين يستخدمون هذه الأدوات، وللأسف في مجتمع جاهل ومتخلف مثل المجتمع الذي نعيشه حاليا في المنطقة العربية يكون الاتجاه

إلى استخدام أدوات التكنولوجيا مثل الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لنشر أفكار متخلفة، وتصبح أدوات لصنع رؤية متخلفة وتُغرق أفراد المجتمع في المزيد من التخلف مثل ما نراه الآن من نشر للخزعبلات التي تلعب دورا مدمرا في إعاقة التقدم واللحاق بالمجتمعات التي تقدمت عنا حضاريا، بل والأخطر أنها خلقت استعمارا جديدا أشد ضراوة من الاستعمار العسكري المباشر، وهو استعمار العقل”.

ويتابع “للأسف كثير من المبدعين اعتقدوا أن أدوات التواصل الاجتماعي مجرد أدوات للانتشار والشهرة السريعة، ويقضي بعضهم معظم وقته في نشر تفاهات ويراقب عدد اللايكات أو إشارات الإعجاب معتقدا أنه يحقق بذلك وجودا في عالم الإبداع بينما في الحقيقة أضاع وقته؛ وبالتدريج يبدأ في تكرار نفسه والآخرين، في

الوقت الذي بدأت تظهر في الغرب أعمال إبداعية تستخدم لغة تلك الأدوات في الكتابة، وأضافت إلى لغة الإبداع مفردات جديدة أو تطرح موضوعات وأفكارا جديدة لم تكن قائمة في مجتمع ما قبل الإنترنت، لقد فهموا تلك الأدوات ويتعاملون مع ما خلقته في مجتمعاتهم من إيجابيات وسلبيات، واقع مجتمع ما بعد الإنترنت”.

 

  • كاتب مصري

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي