فتحي بن معمر: المثقف العربي انفعالي ولم يشكل رؤية أو موقفاً واضحاً

2021-08-08

الكاتب والأكاديمي التونسي فتحي بن معمر

القاهرة - رشا أحمد

الكاتب والأكاديمي التونسي فتحي بن معمر، مختص أساساً باللغة والآداب والحضارة العربية. وهو حاصل على الماجستير من جامعة الزيتونة والدكتوراه من الجامعة نفسها برسالة عنوانها «أصل فكرة الشر من خلال كتاب أخنوخ وتجلياتها في اليهودية والمسيحية والإسلام». وفي اللغة الأمازيغية، له «تَنْفُسْتْ نَلْمِيرَاز»، وهو كما يذكر لنا، أول كتاب حول اللغة الأمازيغية يكتبه أمازيغي تونسي.

وتكمن أهمية العمل في أنه «قدم قواعد النحو والصرف الأمازيغيين كما تستعمل اللغة اليوم، بالإضافة إلى بعض الاستعمالات الخاصة والبيان والمجازات والاستعارات وغيرها». وقد أصدر أخيراً رواية «أززلف» التي يقول إنه استشرف فيها ما يحدث في تونس حالياً. هنا حوار معه حول تجربته الأدبية والأكاديمية:

> في روايتك الأخيرة «أززلف»، اخترت أن يكون العنوان مفردة من اللغة الأمازيغية، ما هي دلالة ذلك الاختيار، خصوصاً أن الكلمة تعني بالعربية «حَرقان»؟

- «أزَزْلَفْ» بحسب منطوق قرية «قلالة» الأمازيغية بجزيرة جربة تعني ذلك الحُرَاق أو الالتهاب الذي يشعر به الإنسان في المريء يعتلج ويلتهب كالنار في الصدر.

وهو المعروف طبياً بـ«الارتداد المريئي». وهو ذو دلالة كبيرة على اعتبار أن الرواية ومن خلال مسيرة أبطالها وشخصياتها ومصائرهم يعيشون ظروفاً صعبة نتيجة الاستبداد السياسي قبل 2011، وينبعث فيهم الأمل في الخلاص مع ثورة الشعب، لكن هذه الثورة يحولها الساسة إلى مغنم، فلا يكسب منها بطل الرواية «البشير» وغيره غير الآلام والحسرة التي وجدنا لفظة «أَزَزْلَفْ» هي الأصدق تعبيراً عن تلك الحالة من الالتهاب والحسرة التي تجيش في الصدور.

 إن مآل ما صورته الرواية والأحداث الأخيرة تثبت ذلك. فلا شيء يناله التونسي سوى حراق والتهاب وحشرجة عبر عنها طيلة عشر سنوات بغضب بما أتيح له من حرية التعبير التي صارت مهددة. وقد لا يبقى للشعب التونسي إلا جيشان الصدر وحراق المريء والحسرة، ولا أجد أصدق تعبيراً عندي من لفظة «أزَزْلَفْ» عن ذلك.

ونحن في هذا نقتفي أثر شيخ الروائيين التونسيين البشير خريف، الذي يعتبر الدارجة التونسية أصدق تعبيراً في بعض المواقف، عندما سئل عن سبب استعمالها. فالكاتب قد ينتقي من محيطه ما يكون أصدق تعبيراً في اللغة والمواقف والسلوكيات والأبطال.

> يغرق «البشير» بطل الرواية في مبارزات فكرية لا تنتهي حول هوية تونس، وخياراتها السياسية، لكن الأمر ينتهي به مهزوماً على المستوى الجسماني والنفسي، فهل هي رؤية متشائمة نحو المستقبل؟

- لم ينهزم «البشير» في تقديري، بل كان يفكر بصوت عالٍ كاشفاً هواجسه التي يشترك معه فيها الكثير من التونسيين حين يفكرون في مآلات الثورة التونسية. هو بمعنى ما بطل إشكالي يسأل ولا يجيب، وإنما يدفعك بذكاء للإجابة، أو على الأقل لعدم الاطمئنان والبقاء على حذر وتأهب.

وعلى هذا ليست في الرواية رؤية تشاؤمية بل فيها رؤية استشرافية تحاول أن تنبه لما يمكن أن يحصل وقد حصل بعضه للأسف الشديد بسبب ما شهدته تونس من مناكفات سياسية قد يدفع التونسيون بسببها الثمن باهظاً.

> ما دور المثقف هنا؟

- المثقف في أوطاننا لم يستطع للأسف وإلى حد الآن أن يشكل وعياً جمعياً يحمل هموم الوطن بصدق، كما لم يستطع أن يكون مثقفاً عضوياً فاعلاً ضمن طبقة من «الإنتلجنسيا» التي تحمل مشروع تغيير وطني واضح المعالم ينبجس من رحم الوطن، ولا ينقل نقلاً مباشراً بطريقة الإلصاق لما ينتجه الآخرون، وما يبنونه من مشاريع فكرية وحضارية، أو رؤى اقتصادية تصلح حلولاً ناجعة لأوطان غير أوطاننا، ويختلف واقعها عن واقعنا.

 لذلك فقد ظل المثقف انفعالياً متحمساً لم يستطع ولن يستطيع أن يشكل موقفاً واضحاً أو رؤية من كل القوى المتربصة لقطف ثمرات الحراك الشعبي وإغراق الأوطان في فاشية جديدة باسم الدين أو بقوة المال والاقتصاد، أو بدعوى التفويض الشعبي أو الانتخاب على قاعدة الإمضاء على صك على بياض.

> في نهاية الرواية، تقول «ابتسام» للبطل بكل مرارة وشجن: قتلتك محن هذا الوطن، فهل كنت ترثي الحالمين بالتغيير على الطريقة الرومانسية؟

- لم يكن الأمر رثاء للحالمين بالتغيير السلمي، بل تأكيد على أن الأمر يحتاج إلى وعي كبير في واقع تشابكت فيه المصالح وتقاطعت فيه أطماع القوى الإقليمية والدولية.

 وهي أيضاً تأكيد على أن الوطني الحق هو ذاك، يحمل هم الوطن دائماً، ولذلك صدح الشابي يوماً مخاطباً تونس الجميلة التي نريدها جميعاً: «شرعتي حبك العميق وقد تذوقت مرّه وقراحه».

> تبدو تونس الآن في مفترق طرق فكرياً وسياسياً، كيف ترى المشهد العام بعين المثقف؟

- أعتقد جازماً أن لا حل اليوم لتونس ولغيرها من الأوطان التي تتخبط مثلها إلا القبول بالتنوع والاختلاف والسعي لتنزيل قيم المواطنة الفاعلة على الأرض، وليس بالاكتفاء والاحتفاء بها في المنابر والحوارات والخطابات السياسية.

فالمشكل في تقديري ليس في التنوع، بل في كيفية إدارة هذا التنوع والاستفادة منه حضارياً وفكرياً واقتصادياً وسلوكياً.

 فعندما يصبح الولاء الأول للوطن ستختفي كل الاحتقانات رغم الاختلاف والتنوع، والدليل على ذلك أن مواطنينا المختلفين في هوياتهم ورؤاهم ومشاربهم الفكرية والآيديولوجية عندما يندمجون في مجتمعات تسودها قيم المواطنة الفاعلة والحقة لا يشكلون مشكلاً، ولا يحدثون فوضى ولا يعرقلون، بل يساهمون بشكل فاعل في بناء أوطان غير أوطانهم وازدهارها.

> أنت بالأساس ابن البحث العلمي والتأصيل الأكاديمي في اللغة والتاريخ، فما الذي دفعك لعالم الإبداع الأدبي وبشكل متأخراً نسبياً؟

- أنا ابن كلية الآداب بمنوبة. ومتحصل على الأستاذية منها في اختصاص اللغة والآداب والحضارة العربية. ثم حاصل على الماجستير من جامعة الزيتونة في اختصاص الحضارة أيضاً بعنوان «الوصايا العشر وتجلياتها في التوراة والإنجيل والقرآن»، والدكتوراه من الجامعة نفسها برسالة عنوانها «أصل فكرة الشر من خلال كتاب أخنوخ وتجلياتها في اليهودية والمسيحية والإسلام».

غير أني لم ألج عالم الإبداع متأخراً، بل كنت أكتب من زمان، لكنى لم أنشر نصوصي، ثم إني قارئ نهم وأكتب كثيراً حول ما أقرأ من نصوص في الرواية والقصة والشعر. إنه الغرام كتابة وقراءة ببساطة.

> «تنفاس سق جربة» واحد من أشهر مؤلفاتك، وهو عبارة عن حكايات أمازيغية من «جربة»، ما الخصوصية التي تمثلها تلك المدينة التونسية سواء بالنسبة لك أو للمثقف التونسي عموماً؟

- الكتاب عبارة عن عشر حكايات بلغتين صفحة بصفحة، حيث نجد على اليمين النص الأمازيغي وفي الصفحة المقابلة النص المترجم إلى اللغة العربية مرفوقاً بملف صوتي بصوت المؤلف. وهو محاولة لحفظ تراث المنطقة لغة وحكايات وثقافة وحضارة. أما جربة فهي تلك الجزيرة الحالمة «جزيرة الأحلام والنسيان» منذ أن وطئها «أوليس» وذاق جنوده إحدى ثمارها فرفضوا المغادرة كما تقول الأسطورة. وهي بالنسبة إليّ الهوية والانتماء أولاً، وهي عمق حضاري وتنوع ثقافي وتعايش سلمي يجسد ما أحلم به من تعايش وتقدم وازدهار لتونس الحبيبة. وهي بالنسبة لكثير من التونسيين جزيرة جميلة رائعة يتميز أهلها بالجدية والأخلاق الرفيعة واحترام الآخر.

> «تَنْفُسْتْ نَلْمِيرَاز»، كتاب آخر أصدرته يتضمن مقدمة لدراسة اللغة الأمازيغية التونسية المعاصرة، هل تكفي اللغة كي تكون وعاء للهوية؟

- الكتاب أكبر مما ذكرت، لأنه أول كتاب حول اللغة الأمازيغية يكتبه أمازيغي تونسي ناطق وممارس إلى اليوم للغته الأمازيغية.

وتكمن أهمية العمل في أنه قدم قواعد النحو والصرف الأمازيغيين كما تستعمل اللغة اليوم، بالإضافة إلى بعض الاستعمالات الخاصة والبيان والمجازات والاستعارات وغيره.

 ولأن اللغة لا تمثل بمفردها وعاء للهوية ولا للثقافة فقد كانت في الكتاب نماذج من الأشعار والأمثال الشعبية والحكايات.

وقد والينا العمل عليها في محاضراتنا ومقالتنا لأننا نعتقد أن اللغة ليست مجرد محمل من المحامل، بل هي رؤية للكون والوجود والمحيط والحياة.

الكاتب التونسي يقول إن روايته «أَزَزْلَفْ» استشرفت ما يحدث في بلاده حالياً

> كيف توفق كباحث ومثقف بين انتمائك الأمازيغي وفضاءاتك العربية، وهل ثمة صراع أو تناقض في الهوية؟

- لا أعتقد أنه ثمة تعارض بين الاثنين. أنا وقسم من أبناء جيلي نشأنا في قرية تتكلم الأمازيغية وتعيش بها ولها وتسعى للحفاظ عليها، ودرسنا في بيئة تحفل بالثقافة العربية الإسلامية فكنا منها وصارت منا.

 فحينما أدافع عن هويتي الأمازيغية لا أعتقد أني أناكف ثقافتي العربية أو أعتدي على إسلامي أو ديني، أو أني أحدث بلبلة وانشقاقاً كما يدعي البعض، بل أعتقد جازماً أني أثري المجال التونسي باستعادة لغة وثقافة وحضارة أصيلة كادت تندثر، أو أُريد لها ذلك بترويج حكاية «تونس صاحبة ثلاثة آلاف سنة حضارة»، فتونس أعمق من ذلك، واللوبيون وأبناء الحضارة القبصية موجودون في تونس منذ أكثر من عشرة آلاف سنة.

> أخيراً كيف ترى العلاقة بين مثقفي المغرب العربي ونظرائهم في المشرق العربي، وهل ثمة إحساس ما بالتهميش لديكم لصالح المشرقيين؟

- المثقفون في المغرب الكبير يتميزون بهذه الهويات التي تجعلهم مختلفين عن نظرائهم في المشرق، وإن لم يشعروا بذلك. ومنذ القديم كان هناك تمايز بين مدارس الغرب الإسلامي ومدارس مشرقه في الفقه واللغة والأدب والفلسفة وسائر العلوم.

ولا أعتقد أن هناك تهميشاً، بل هناك تسابق للمعرفة منذ القديم وبعض الأسماء التي تبرز هنا أو هناك تجد حظوتها في العدوتين المشرقية والمغربية.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي